بقلم : خيري منصور عندما كتبت يائيل ابنة موشي دايان روايتها طوبي للخائفين، قرأناها علي هوانا، ومن اليسار إلي اليمين، فهي أرادت أن تفتضح تربويات الكيبوتس والموشاف، التي تتلخص في تلقين الأطفال اليهود دروسا في المناعة ضد الخوف، لكن الإفراط في هذه التربويات غير البشرية، أدي إلي ظهور خوف جديد، تسميه يائيل الخوف من الخوف، وعلق في تلك الأيام صحافي فرنسي علي الرواية قائلا أن كاتبتها التي حاربت العرب عام 1956 كمجندة وكتبت يومياتها في سيناء، أرادت أن تقول أن للمستشفي أيضا جرثومته، وأن قليلا من الخوف الطبيعي ضروري للإنسان كي يبقي آدمياً، تتدرج استجاباته للتحديات من أدني ردود الفعل الغريزية إلي أقصي الإرادة. أقول بأننا قرأنا تلك الرواية الفاضحة للخوف من اليسار إلي اليمين رغم أنها مكتوبة بالعبرية من اليمين إلي اليسار إشارة إلي وقوعنا تحت تأثير سحري لنظريات تجرد الإنسان من لحمه ودمه وتحوله إلي قامة من الفولاذ، وحين مرت الأعوام العجاب تباعا، وقضمت أعمارنا كما يقضم حمار جائع سلة من الجزر أدركنا بأننا بحاجة إلي روايات مضادة لرواية ابنة الجنرال، العربي يولد خائفا، ويراهق خائفا ويبلغ شيخوخته وتقاعده خائفا وليس هذا الخوف العربي المزمن من عدوه حتي لو كان يملك جعبة نووية كما هو الحال لدي إسرائيل، انه خوف من الذات ومن الشقيق ومن الجار ورب العمل والدولة. هذا الخوف، هو نتيجة غياب الضمانات الحقيقية لصيانة الحقوق، وإتاحة الفرصة للذات أن تتحقق بالسبل المشروعة. فالإنسان يولد معرفا بين قوسين، أحدهما مهده والآخر قبره، وعليه حسب ما يقول أردأ الأمثال وأكثرها سلبية أن يمد فراشه علي قدر رجليه، وأن يعلم كفه كيف تستسلم للمخرز، وأن يمشي بموازاة الحائط صامتا لأن الجدران لها آذان! وان كان هناك من وصف لهذه السايكولوجيا فهو ليس عربيا علي الإطلاق، انه فصل من كتاب القرد العاري لموريس، الذي يزعم مؤلفه بأنه اكتشف الحلقة المفقودة في نظرية دارون! في غياب الضمانات، وأكثر المسودات بدائية للعقد الاجتماعي أو حتي للماغناكرتا، يضطر الذكر المزهو بفحولته إلي أن يتأنث ويخفض صوته، ويرخي كتفيه كي يقصر قليلا أمام من يتوهم بأنهم سادته الذين بأيديهم الرغيف والوردة، والحرية والقيد! ان الفصل الخاص بهذه السايكولوجيا من كتاب القرد العاري لا ينتهي عند افتضاح الضعف البشري إزاء الحاجة، وثمة ما هو أدعي إلي الصمت لأنه ينكأ الجراح كلها، ومن كان منا جميعا بلا جرح فليرمها بسكين لا بحجر! ان الخوف والفوبيات الناجمة عنه يشكلّ الإرادة، ويلدغ الروح بسم التردد وازدراء الذات، وحين يتحول الخوف بمختلف أنواعه إلي وباء فإن الحضارة برمتها تصبح عرضة لعواصف الخريف والدمار! فأن يخاف الناس من الموت، تلك سنة من صميم التكوين البشري، وردود الأفعال الغريزية، وهواجس نزعة البقاء لكن حين يخافون من الحياة فإن الأمر يصبح جللا، ويتجاوز السيل الزُّبي، وتفرغ الذات الإنسانية من جوهرها الذي يتلخص في كلمتين فقط، هما الممانعة والفعل! ان من أدانت يائيل دايان تربوياتهم الخرافية يخافون من الخوف، أما نحن الذين نبحث عمن يروي حكايتنا مع الخوف والأشباح فإننا نخاف من أنفسنا أولا لأنها كما تعلمنا منذ نعومة أظفارنا، أمارة بالسوء!! وقد لا نجد في ثقافات العالم كله موعظة مثل اتق شر من أحسنت إليه. أنها لحظة للافلات من مألوف الكتابة المستعملة والحبر الذي فقد صلاحيته وصار بلون الماء! ان الكذب هو الابن البكر للخوف، فهو الدرع الذي حاولنا في طفولتنا أن نتقي به عقاب الوالدين والمعلم في المدرسة، والجار الفضولي. وبقدر ما تنامي الخوف وازدهرت محاصيله في حياتنا تنامي الكذب أيضا، وصارت له مهارات وتجليات يتطلب اتقانها مرانا وممارسة بدأب وبلا إنقطاع، وليس هناك كما حاولوا ايهامنا كذب أبيض وآخر أسود أو بنفسجي، لأن الكذب لا يتجزأ، وقد يبدأ من انكار فعل ما ليصل إلي اقتراف جريمة، وشهادة الزور مثلا هي تطوير للكذب بحيث يصبح شريكا في القتل. وإذا شئنا الخروج من هذا التعتيم الذي لا يروق لعشاق الشخصنة ووسائل الإيضاح فلنعد إلي تلك الطفولات المهدورة والمسفوح دمها علي رصيف الزمن. ان ما يشهد علي تشظي تلك الطفولات جيوب السراويل المحترقة والمثقوبة التي كانت تخفي أعقاب السجائر، ومن ثم عثر علي وظيفة أخري، في نظام اجتماعي وتربوي يتشكل من سلسلة لا آخر لها من العادات السرية. كان الكذب هو اكتشافنا بل إبداعنا الأول حين نُضبط مُتلبسين بأي فعل ذي صلة عضوية بتكويننا كبشر، وغالبا ما كان المجازف بالاعتراف يعاقب بينما يكافأ الماهر في الإخفاء، وينجو بجلده، وفي تلك الحاضنات السود نشأ الموظف والجندي والزعيم والناشط السياسي والمعلم، وتولي كل فرد من هؤلاء تطوير أدواته في الكذب بما يتناغم مع مهنته، وان كان المثقف هو كثافة هؤلاء جميعا، عندما ينصرف إلي اختراع طفولة أخري غير طفولته تليق بما آل إليه الحال. وأذكر للمثال فقط ما ورد في مذكرات هود عن حرب حزيران عام 1967، حيث قال بأن معرفة إسرائيل بسايكولوجيا العربي جعلتها تراهن علي أن الجنرالات العرب لن يبلغوا رؤساءهم بما يحدث ميدانيا، لأنهم تربوا علي استرضاء الزعيم وإسماعه ما يشتهي أن يسمع، وقبل أسابيع قليلة كتب باحث إسرائيلي يقول، أن هزيمة إسرائيل ستحدث بالفعل إذا قلصت حكومة أولمرت ميزانية وزارة الثقافة ودوائر المسرح والأنشطة الإبداعية، وضرب مثالا بالعرب عندما قال انهم سارعوا في كل الحروب التي هزموا بها إلي حذف مجلات وأنشطة ثقافية، بحجة التقشف، والتعبئة العسكرية. وذلك لأن حائط الثقافة هو الأوطأ بل هو الحائط الخامس أو العجلة الخامسة في الشاحنة المثقلة بالقمح والبارود والنفايات. ان أشباح ثقافة الهلع تطاردنا من المدرسة إلي الجامعة ومن الثكنة إلي المعمل ومن الطفولة الي الشيخوخة، وأحيانا يصبح الخوف غامضا، ويبني الهلع للمجهول لأن الذات الجريحة التي تنكفئ بإشفاق علي أحزانها وإحباطاتها احترفت الخوف وإصابتها فوبياه، بل ماسوشيته، بحيث تخلقه ان لم تعثر عليه في الواقع، لأن ثلاثة أرباع الطاقة الذهنية والاستعداد الجسدي مكرسة أساسا للدفاعات، في مجتمعات يولد فيها العقاب قبل الجريمة، ويصح عليها ما قاله كونديرا وهو أن الناس يصبحون جميعا متهمين، والعقاب قبعات جاهزة وطائرة في الهواء تبحث عن رؤوس تناسبها! ان الكتابة بمختلف حقولها تصلح مشهدا نموذجيا لقياس منسوب الهلع، خصوصا في السيرة الذاتية التي يعقمها التدجين من أية طزاجة، ومن أية أخطاء حميمة أجدي ألف مرة من الصواب العقيم، ولم تكن مجرد مصادفة أن يحترز عدد من الروائيين العرب في مقدمات رواياتهم عازلين الشخوص والوقائع عن كل ما يشبهها أو يذكر بها في الواقع، وكأن هذا الفن ما يزال بدائيا وعلي تخوم هويته الإبداعية بحيث يختلط السرد الروائي بالسيرة الذاتية والتاريخ العام! وساهم الرقيب العربي الذي تجاوز جدانوف وغوبلز بمراحل في ارضاع هذا الهلع وتغذيته بالمزيد من مضادات الصدق والبوح والاعتراف، ويكفي أن نذكر مثالا واحدا لسيرة محمد شكري الذاتية التي منعت في عشرين دولة عربية، حيث ما من وحدة أو إجماع أو التئام وطني إلا علي الصدق، وحرية التعبير، ذلك لأن المطلوب بامتياز هو الأكذب باعتباره الأعذب حسب موعظة نقدية خرقاء تعزل الخيال عن الذاكرة وتباعد بين الموسيقي والرقصة، وأخيرا بين الرقصة والجسد! إذا كان للعشق مراتب في لغتنا ومعاجمها حيث لا يتساوي المتيم بالمحب، فإن للخوف أيضا مراتبه، لكنها محرومة من الكشف لأنها تنتمي إلي قارة المسكوت عنه والمتواطأ عليه في ثقافة تسد الباب والنافذة اللتين تأتي منهما الريح كي تُريح وتستريح. ان ما يعوقنا حتي عن المشي المتعثر هو هلع نبتت أشواكه علي جذوع الرعب ورعب نام وهو يمتص من جذور الخوف، ويبدو أن موعد هذا الإنسان مع الفطام عن هذه الأثداء السامة لا يزال بعيدا، بل هناك قوي وتربويات وايديولوجيات تسخر كل ما في حوزتها لتأجيل هذا الفطام! ان من وصفتهم يائيل دايان في طوبي للخائفين دفعوا ثمن تربية فاشية، تزهو بالعصمة الكاذبة. أما نحن، فما نزال بانتظار من يحرر ذاكرتنا من هلع مزمن يندلع في القلب كلما رأينا حبلا، لأنه يذكرنا بالثعبان!!