يكن مفهوم الثورة الدائمة يعني سياسياً وتاريخياً ما اختزله البعض إلى أن الثورة يجب ألا تتوقف حتى لالتقاط الأنفاس، وهذا الفهم افتراضي بقدر ما هو تجريدي أيضاً، بل هو أقرب إلى الفنتازيا، لأنه ما من ثورة لا تنتهي إلى استقلال إن كان محركها هو الانعتاق من محتل أو منتدب أو وصيّ، وإلى دولة إن كان باعثها هو ترسيخ الهوية ورسم حدود الكينونة السياسية . وإذا أخذنا مصر مثالاً، فليس من المعقول أن يقيم الملايين في الميادين، وأن تعاد البلاد والعباد إلى المربع الأول في كل احتكاك سياسي. لكن ما يجب التذكير به في هذا السياق كي تبدو الأمثلة واقعية، هو أن الحراك الشعبي في أي مكان قد يهتف بسقوط شخص بالاسم أو نظام ببعض رموزه، لكن ليس معنى ذلك أن الحراك هدفه هؤلاء، وأنه ينحصر في نطاق الشخصنة، فالاستبداد قد تكون له أسماء مستعارة في مختلف العصور وأن يتجسد أحياناً في طاغية أو ديكتاتور، لكنه يبقى استبداداً قبل كل شيء، لهذا فإن سقوط رموز الاسبتداد ليس سقوطاً بالضرورة للمفهوم ذاته، لأن ما يحدث أحياناً هو استبدال أشخاص وليس مفاهيم، وهذا ما يجعل أي حراك ناقصاً إذا لم يكن من إفراز ثقافة مشحونة بنزعة التغيير، وفي أمريكا اللاتينية طالما تبدل جنرالات وتغيرت شعارات وذرائع للتغيير، لكن الفساد واحتكار السلطة بقي هو ذاته . ومن قالوا قبل انتخابات الرئاسة في مصر إن البعض قد ينادون ويهتفون بسقوط الرئيس القادم قبل أن يعرفوه، لم يذهبوا بعيداً في الخيال، لأن الإقامة في الميدان معناها استمرار المطالب بإسقاط كل ما يأتي، خصوصاً إذا كان إعادة إنتاج لما مضى، وما يغيب عنا أحياناً هو أن معالجة الفقر كظاهرة ليس هو معالجة حالة فقير واحد وربما كان اختصار الفقر إلى مجرد عدد من الفقراء هو بمنزلة تكريس وترسيخ لظاهرة الفقر، وهذا هو الوجه الآخر للاستبداد، لأنه ليس حكراً على زعيم أو نظام، بحيث إذا تم إسقاطهما انتهى كل شيء، وهذه مناسبة أخرى للتفريق بين المفاهيم وثقافة الشخصنة التي لا ترى الجزء الغاطس من جبل الجليد . فهل أصبح قَدَرُ بعض الشعوب أن تدفع ثمناً كبيراً للتغيير من دمها واستقرارها وممتلكاتها كي تعود مجدداً إلى أول السطر؟ إن ما سمعه العالم من هتافات في ميدان التحرير وشارع محمد محمود في القاهرة، ظهر كما لو أنه أصداء هتافات صاخبة قبل عامين حيث لم يتغير في الهتاف غير الأسماء . بالطبع ما من سلطة زمنية معصومة وما من رئيس أو زعيم على رأسه ريشة، كما يقال في المثل الشعبي، لهذا كان من أول تقاليد الديمقراطية عدم تأبيد السلطة وعدم احتكارها من فرد أو جماعة، لكننا نعرف حالات كان الاستبداد فيها هو الابن البكر للديمقراطية لأنها ضلت الطريق، فالنازية جاءت من خلالها وكذلك الفاشية، وثمة ما هو أقدم من ذلك، فقد ورث الثورة الفرنسية إمبراطور مستبد هو بونابرت . إن الثورات ومجمل الحراكات السياسية لا تهدف إلى تغيير فلان بعلان، أو عمرو بزيد، بل هي تهدف إلى خلق واجتراح مناخات جديدة مضادة لتلك التي لوّثها وأفسدها ثاني أكسيد الاستبداد . والحكمة الذهبية القائلة “لو دامت لغيرك لما وصلت إليك”، يجب أن تكون أيقونة كل زعيم حتى لو جاء في أعقاب ثورة أو امتطاها . وتغيير الأشخاص فقط لا يغير من الأمر شيئاً، بل يضاعف من الإرهاق العصبي والسياسي لدى شعوب غالباً ما تجد نفسها تعاد إلى عتبة البيت الذي تبقى بوابته موصدة . والفارق حاسم وجوهري بين ثورة تجدد أدواتها وتستثمر منجزها وبين الإقامة في الميادين لمضاعفة الفوضى والبطالة . ************************* (نقلا عن الخليج - الامارات)