سنّةٌ من سنن الأنبياء، ودعاء تهتز له القلوب.. يرفعه المظلوم، ويهتف به المكلوم، فيدك عروش الظالمين، ويُجبر به كسر المكسورين، باستجابة الله لهم، بحسب نياتهم، بعد أن يفوضوا الأمر له، ويتوكلوا عليه. إنه قول: "حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ". هذه "الحسبنة" سيف الله على الظلم، وأهمّ مفتاح للفرج الإلهي، وأحد أعظم الأدعية قدرا، إذ استعان به أولو العزم من الرسل؛ ذلك لما يتضمنه من حقيقة التوكل على الله، وما يترتب عليه من كفايته تعالى للعبد شر الأعداء، وهموم الدنيا، فيكون لسان حاله الاكتفاء بحمايته سبحانه عن الخلق، في كل موقف، وعند كل فزع، أو كرب. "حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ" قالها إبراهيم، عليه السلام، وهو بين السماء والأرض حين ألقي في النار؛ فأنجاه الله. وقالها النبي، صلى الله عليه وسلم، لمَّا اجتمع عليه أعداؤه؛ فنصره الله. وقالها الصحابة: كذلك، حين أخافهم المنافقون بأن أهل مكة حشدوا لهم الجموع لأجل هزيمتهم، في أعقاب معركة أُحُد، فلم يزدهم هذا التخويف إلا إيمانا بالله، واستمساكا بحقهم، وإصراراً على المواجهة، قائلين: "حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ". وفي ذلك قال تعالى: "الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ. الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ". (آل عمران:172-174). وقد كان جزاء الصحابة، حين قالوا هذه الكلمة، أن رجعوا بحفظه، عز وجل، في أعقاب "أُحُد": "لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ". (آل عمران: 174). وفي مرحلة تالية، طمأن الله، تعالى، رسولَه، صلى الله عليه وسلم، إلى أنه: "وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ* وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيم".(الأنفال:62 و63). والمعنى، بحسب التفاسير: "وَإِنْ يُرِيدُوا" يهود بَنِي قُرَيْظَةَ، "أَنْ يَخْدَعُوكَ" أي أَن يَغْدِرُوا وَيَمْكُرُوا بِكَ، واتخاذ الصلح خديعة ليتقووا ويستعدوا، بأن يظهروا لك السلم والصُّلح، ويبطنوا الغدر والخيانة، لتكفَّ عنهم. والخداع هو إظهار الشيء المحبوب وإبطان الشيء المكروه، فاجنح فما عليك من نياتهم الفاسدة. "فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ" أَيْ أن كَافِيكَ اللَّهُ، فهو الذي يتولَّى كفايتك وحياطتك، إذ "هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ" أي: قوَّاك بِنَصْرِهِ يوم بدرٍ، وبالمؤمنين، أي: بِالْأَنْصَارِ، برغم قلة العدد، والعُدد. قال الشعراوي: "أمره بأن يأخذ الأعداء على ظاهر حالهم، ويحملهم على الصدق، لأنّه الخُلق الإسلامي، وشأن أهل المُروءة، ولا تكون الخديعة بمثل نكث العهد، فإنّ الله تكفّل للوفي بعهده، أن يقيه شرّ خيانة الخائنِين". وقال تعالى أيضا مخاطبا نبيه: "َيا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ". (الأنفال:64). قال ابن عاشور: "إن موقع الآية بعد التي قبلها كَامل الاتّساق، فإنّه لمّا أخبره بأنّه حَسبه وكافيه، وبيّن ذلك بأنّه أيّده بنصره فيما مضى وبالمؤمنين، فقد صار للمؤمنين حظّ في كفاية الله رسولَه، وتخصيصه بهذه الكفاية لتشريف مقامه بأنّ الله يكفي الأمّة لأجله. وفي عطف المؤمنين على اسم الجلالة تنويه بشأن كفايته النبي بهم". ورأى ابن تيمية أن المعنى هو: "حسبك الله وحسب الله أيضاً للمؤمنين، فالله عز وجل حسب لك، وحسب لأتباعك من المؤمنين، وليست معطوفة على لفظ الجلالة، فليس المعنى: حسبك الله وحسبك المؤمنون، فإن الحسب خاص بالله سبحانه". هذا عن القرآن، أما في "صحيح البخاري" فقد جاء في الحديث أن العبارة وردت على لسان أبي الأنبياء إبراهيم، عليه السلام، في محنة إلقائه في النار. وقالها النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، في مواجهة المشركين بموقعة "أحد". عن عبد الله بن عباس، قال: "حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ: قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حِينَ أُلْقِي فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ، صلى الله عليه وسلم، حِينَ قَالُوا: "إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ". وقيل إن إبراهيم، عليه السلام، لمّا فعل الأسباب المأمور بها، ثم غلبه أعداؤه، وألقوه في النار، قال: "حسبي الله ونِعم الوكيل"، فوقعتْ الكلمة موقعها، وترتب عليها مقتضاها". والأمر هكذا، يردد كثيرون هذا الدعاء، دون أن يفهموا فحواه، على الرغم من أن العلماء قالوا: "الحسب هو الكفاية"، وكفاية الله للمسلم تشمل كل ما أهمه، وأخافه، وأصابه، وأحزنه". أما قول: "وَنِعْمَ الْوَكِيلُ" فصيغة مدحٍ وثناءٍ على الله، عزوجل، بأنه أفضل وكيل، وأعظم من تتوكل عليه، وتفوض الأمر إليه. قال تعالى: "وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا". (الطلاق:3). من هنا قال أحد الصالحين: "عجبت لمن خاف ولم يفزع إلى قول: "حسبي الله ونِعم الوكيل". ودعا ثان فقال: "حسبي الله لديني، وحسبي الله لما أهمني". ولخص أحد الدعاة فضلها فقال: "هذه الكلمة تكشف عنك الكروب، وتزيل عنك الخطوب، وتغفر لك الذنوب. ومجرد أن تقولها يجيبك الله: "لأنصرنك، ولو بعد حين". [email protected] لمزيد من مقالات عبدالرحمن سعد;