وقفت على ضفة النهر ناظرة إلى أحجار المعبر، متذكّرة كلّ واحد منها. هناك حجر مستدير غير مستقر، وحجر مستدقّ الرأس، وآخر مسطح فى الوسط، وحجر آمن يمكنك الوقوف عليه والتطلع حولك. بجواره حجر ليس آمناً، خاصة حين يمتلئ النهر ويفيض على ضفتيه، ويصبح زلقا حين يصبح النهر جافا. ورغم ذلك عبرت النهر بسهولة، وسرعان ما كانت على الجانب الآخر. كان الطريق أوسع بكثير ممّا اعتادته. أُنجِّز العمل فيه بلامبالاة. لم تتمّ إزالة جذوع الأشجار المقطوعة، وظهرت شجيرات وطأتها الأقدام. لكنه ما يزال نفس الطريق. سارت على امتداده شاعرة بسعادة غير عادية. كان يوما جميلا، باردا. الشيء الوحيد الذى لم تستطع تذكّره أن السماء كانت كامدة. هى الكلمة الوحيدة التى أمكنها التفكير فيها. كامدة. استدارت عند الزاوية، رأت أن الطوار القديم جرى تمهيده، وأصبح الطريق هناك أوسع كثيرا، وله نفس الشكل غير المكتمل. وصلت إلى بلاطات الأرضية الحجرية البالية التى تؤدى إلى البيت، وبدأ قلبها يدقّ. اختفت أشجار الصنوبر اللولبية، وهى كانت سبب تسمية البيت الصيفى كوخ «الأجوبا» تهكما، لكن شجرة القرنفل كانت ماتزال هناك، وقد امتد بعيدا عنها عند البلاطات العلوية مرج من أرض وعرة، تماما كما تذكّرته. توقفت ونظرت باتجاه المنزل الذى جرت إضافات إليه وطلى باللون الأبيض. وكان من الغريب أن ترى سيارة تقف أمامه. كان هناك طفلان تحت شجرة المانجو الكبيرة، ولد وبنت صغيرة، لوّحت لهما: مرحبا. لم يجيبا أو يديرا رأسيهما. طفلان وسيمان تماما، كأوروبيين ولدا فى جزر الهندالغربية، كما لو أنّ الدم الأبيض يفرض نفسه رغم كلّ الصعاب. بدا العشب أصفر اللون وسط أشعة الشمس، وهى تمضى باتجاههما. وعندما أصبحت قريبة جدا منهما، صاحت مرّة أخرى بخجل: مرحبا.. ثم استطردت قائلة: اعتدت أن أعيش هنا ذات يوم. لم يردا أيضا.. فقالت للمرّة الثالثة: مرحبا.. كانت بجوارهما تماما. امتد ذراعاها غريزيا بشوق للمسهما. استدار الصبى. نظر بعينيه الرماديتين مباشرة فى عينيها. لم يتغيّر تعبيره. قال للبنت: ألم يبرد الجو فجأة. هل لاحظت؟ دعينا ندخل. قالت البنت: نعم.. دعنا ندخل. سقط ذراعاها إلى جانبيها، وتابعتهما وهما يهرولان على العشب صوب البيت. «آلا جوندالين ريز وليامز» واشتهرت باسم «جين ريز»، ولدت فى جزيرة «الدومينيكان» إحدى المستعمرات الانجليزية السابقة بمنطقة الكاريبى. (24 أغسطس 1890- 14 مايو 1979). من أهم أعمالها رواية «بحر ساركاسو الواسع» (1966). وكتبت هذه القصة عام 1976، تعالج فيها تجربة اغترابها الحقيقية التى عاشتها، لكونها بيضاء البشرة، بينما غالبية السكان سود، حيث سافرت للدراسة فى إنجلترا بعمر السابعة عشرة لأن والدها كان بريطانيا وأمها بيضاء من الهندالغربية ذات أسلاف أوروبيين. لكنها تمسكت بمسقط رأسها، كما تظهر القصة، حين عادت بشوق إلى منشئها فى الجزيرة.