ما يهم الدول والأقاليم في النظام الدولي هو المكانة التي تتمتع بها والناجمة عن الموارد حينما تتحول إلى قدرات بفعل الإرادة السياسية، ويدور جزء كبير من الصراع الدولي حول المكانة وعوائدها التي تصب في تحقيق المصلحة القومية والإعلاء من الأمن القومي واستدامة المكانة، وهكذا، لا تكتفي الدول بالمكان، أي المساحة الجغرافية والموقع، بل تبحث في الموضع والوجاهة الدولية، ويتغير شكل النظام الدولي ليس بالمكان، ولكن بتغير المكانة، إذ تحول من نظام تعددي في القرن التاسع عشر إلى نظام ثنائي في أعقاب الحرب العالمية الثانية بتنافس شرس بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتي، ثم نظام فردي بزعامة الولاياتالمتحدة في أعقاب سقوط الاتحاد السوفيتي، ثم إلى نظام تعددي قيد التشكيل بعد أن ضربت الأزمة المالية الدولية 2008 مكانة الولاياتالمتحدة، وبدأت مكانة الصينوروسيا والاتحاد الأوروبي واليابان في الصعود والتأثير على التطورات الدولية والإقليمية. والحقيقة أن الوطن العربي، إذا نظرنا إليه كمكان، يتشكل من 22 دولة ويطل على أهم الممرات الدولية؛ مضيق هرمز، ومضيق جبل طارق، وباب المندب، وقناة السويس، وهو امتداد أرضي يغطي 13.5 مليون كم2، وهو بذلك يحتل الترتيب الثاني بعد روسيا، ومن ثم يتحكم في كتلة أرضية ذات أهمية جيواستراتيجية حيوية، كما أنه يضم جيوشًا تصل إلى 2.6 مليون جندي، ويصير بذلك الثالث بعد الصينوالولاياتالمتحدة، وينتج 25% من النفط العالمي بما يعادل 25 مليون برميل يوميًا، وتحتوي أراضيه على 65% من الاحتياطي العالمي للنفط، كما تضم ما يناهز 30% من احتياطي الغاز في العالم، ويصل الناتج القومي الإجمالي له إلى 2.5 تريليون دولار، وبذلك يحتل المركز الثامن عالميًا، ويصل عدد سكانه حوالي 411 مليون نسمة، ويأتي بعد الصين والهند؛ فأين مكانة الوطن العربي في النظام العربي؟، ولماذا لم يتحول هذا الموقع الجيواستراتيجي والموارد الطائلة إلى مكانة تعلي من دوره الدولي وتدفع الأطراف الأخرى إلى احترامه وإكباره؟، بل على العكس من ذلك، يتنافسون على إضعافه وتفكيكه وإفقاده حتى المكان الذي يوجد فيه، وربما يكون من المفيد أن نطرح الأمراض التي أصابت الوطن العربي بالشلل الرباعي، والذي أعجزه وأقعده، والذي كاد يودي به وبمستقبله في الوقت الذي يدخل العالم في الثورة الصناعية الرابعة؛ حيث الابتكارات والاختراعات على مستوى المادة والإنسان، وحيث يتحكم العلم والتكنولوچيا والذكاء الصناعي في مصير العالم، كما يتم الاتجاه إلى الروبوتات وإنترنت الأشياء والنانو تكنولوچي وعلوم المواد وتخزين الطاقة؛ فأين العرب من كل ذلك؟ ومنذ عام 1945، لم تنجح أية تجربة اندماجية تضم العرب أو بعضًا منهم؛ فها هي جامعة الدول العربية تبارك العمليات العسكرية لحلف الناتو للتخلص من نظام القذافي وتعجز عن اتخاذ أي موقف إيجابي إزاء الصراع في العراق أو في سوريا أو في ليبيا كما عجزت عن الحفاظ عن وحدة السودان، وهي لم تنجح أيضًا في خلق نظام اجتماعي وثقافي أو اقتصادي إقليمي، وحتى المجالس الأقاليمية لم تنجح في لم الشمل العربي. ومن جانب آخر، لم يحدث أن تحولت الموارد العربية إلى قدرات إلا في حدود حرب تحرير الأراضي العربية من الاحتلال الإسرائيلي في أكتوبر 1973 حينما اتفق حافظ الأسد وأنور السادات على توقيت الحرب ومسارها ومفاجأة إسرائيل بها، وتعانق النفط كقوة ضغط اقتصادية مع القدرات العسكرية العربية (مصر وسوريا بالأساس) لتحقيق نصر 73، وبدلاً من تطوير هذه القدرات لاحتلال مكانة كبرى في النظام الدولي، بدأ تقسيم الوطن العربي أيديولوچيًا واستراتيچيًا، مما أفقد نصر أكتوبر قوة دفع العرب إلى الصفوف الدولية الأولى. ومنذ سبتمبر 2001، بدأت الولاياتالمتحدة -في إطار استراتيچية الثأر من الدول العربية- وضع خطط وآليات هدر مكانة الوطن العربي، ناهيك عن المكانة، بدأت بإعلانات صريحة حول الشرق الأوسط الجديد وتعديل الحدود «الدموية» وإنشاء منظمة إقليمية للشرق الأوسط تضم إسرائيل إلى جانب العرب، وتم احتلال العراق وتدمير سوريا وليبيا واليمن والصومال وتقسيم السودان، وفي عام 2018، تمتد تلك الاستراتيچيات إلى البقية الباقية من الدول العربية، خصوصًا دول الخليج؛ حيث يتم التصعيد في اليمن، وربما الدخول في حرب مباشرة مع إيران تستهدف بالأساس الإجهاز على ما بقي من دول عربية انتصارًا للثأر لهجمات 2001، ولا يشفع لتلك الدول أنها تستورد 70% من صادرات السلاح الأمريكي بما يصل سنويًا إلى 65 مليار دولار أو عقد صفقات مع الولاياتالمتحدة بما يناهز 450 مليار دولار أو فتح أسواقها بلا قيود أمام المنتجات الأمريكية، إن خطط التصعيد عام 2018 لا تستهدف فقط المكان والمكانة للوطن العربي، ولكنها -وهذا هو الأهم- تؤسس لتحول إسرائيل إلى الدولة المركزية في الشرق الأوسط؛ فقد ذكر نيتانياهو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة أن إسرائيل لا تحتاج العالم، ولكن العالم هو الذي يحتاج إسرائيل، بالإضافة إلى ذلك؛ فإن هناك خططًا إضافية لتطويق الوطن العربي من الجنوب، وذلك بإثارة خلافات جديدة بين الدول العربية «الشقيقة». إن العرب بلا مكانة ليس لهم مكان في النظام الدولي القادم، وربما يدفعنا هذا إلى التفكير بصورة جدية في كيفية الخروج من هذا المأزق؛ فإذا كانت الدولة المصرية هي الدولة العربية الوحيدة العصية على التقسيم والتجزئة وأنها تشكل قلب النظامين العربي والشرق أوسطي؛ فإن الحاجة ماسة لكي تلتف الدول العربية الباقية حول الدولة المصرية وتفعيل اتفاقيات الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي والمناطق الحرة وإعادة اللحمة بين شعوب الأمة العربية، إن ذلك نداء أخير قبل أن تقع الواقعة. لمزيد من مقالات ◀ د. عبد المنعم المشاط