يظل رغيف الخبز هو القمر الشخصي الذي يطل علي كل معدة تطلب الإشباع؛ ويعلم الرغيف أنه ينال درجة القداسة عند عموم المصريين؛ فقد أطلقنا عليه لقب «عيش» أي أنه مرادف للوجود. وواقعنا يتذكر دون أي دهشة هذا الاسم الذي أطلقناه علي تحرك العامة في يناير 1977 ضد تطبيق الراحل السادات نصائح صندوق النقد برفع الدعم عن الخبز، فقال الحريصون علي حياة البسطاء «إنها انتفاضة الخبز» بينما قال السادات هي «انتفاضة الحرامية». وكانت حركة العامة سببا في تراجع السادات عن أي تحريك لسعر رغيف الخبز، وكانت حركة الجموع يومها تمثل فرصة للمتأسلمين كي يختبروا قوتهم في تحريك الشارع. ولن أنسي مشهدين من تذكار ذلك اليوم. المشهد الأول هو نزولي مع طفلتي لشراء خبز من المخبز الآلي بميت عقبة ولم أكن اعلم بحركة الغضب الجماهيري تلك ، وفوجئت بوقوف رجل له ذقن لابأس بها يقف بجانب الشباك الحديدي الذي يقدم فيه عامل المخبز الخبز للجمهور بالسعر المرتفع؛ فقال صاحب الذقن «نقي العيش كويس للبيه»، بينما كان هناك صاحب ذقن آخر يكتب علي الأسفلت كلمات سباب لمن منحهم حق الوجود السياسي بعد أن كتم عبد الناصر أنفاس حركتهم السياسية. وتعجبت من الامر لكن سرعان ما فهمت اللعبة؛ فقد كان لهم قرابة خمسة أعوام منذ أن فوضهم السادات بمهمة التنكيل بالشباب اليساري والناصري في الجامعات؛ وكانوا في مظاهرات الخبز يريدون اختبار قوتهم في السيطرة علي الشارع؛ عندما جاء الرفع الجزئي للدعم عن الخبز والمكرونة وبعض السلع الأخري. ولكن ذلك لم يمنع أهل اليسار من السير في مظاهرات الاحتجاج. وما إن أطل الغروب حتي بدت القاهرة وكأنها مدينة تعيش ليلة من إعلان الأحكام العرفية دون أن تخبرنا أجهزة الدولة بذلك الإعلان، وقد حاولت يومها أن أقوم بتوصيل السياسي الهادئ المقاتل في صفوف الثورة الفلسطينية د. رءوف نظمي المسمي حركيا ب «محجوب عمر» من منزل صديق بالمهندسين إلي منزل صديق في أول حي شبرا ، أي أننا يجب ان نعبر إما كوبري قصر النيل الفاصل بين الجيزةوالقاهرة، أو كوبري أبو العلا أو حتي كوبري إمبابة. وقد فشلت بالعبور بسيارتي عبر الكباري الثلاثة، هنا قال د. رءوف نظمي «هي الأحكام العرفية». وشاهدنا عدة سيارات تم تكسير زجاجها بواسطة الطوب الغاضب في أيدي المحتجين. وعدنا أدراجنا لنشهد برنامج «رأي الشعب» الذي كان يقدمه واحد من سادة الميكروفون هو طاهر أبو زيد، وكان وزير المالية عبد المنعم القيسوني يتعثر في التعبير عن آراء الدولة التي كانت قد بدأت أولي خطوات تفكيك القطاع العام بداية من شركات المياه الغازية ومرورا ببعض المصانع الحيوية، مع إغراق الشارع بسيل من السخرية من القطاع العام الذي حما مصر من أن تمد يدها للخارج منذ هزيمة يونيو 1967؛ مرورا بحرب أكتوبر وصولا إلي الضغط علي عنق الاقتصاد المصري بحبل توجزه جملة وليام سايمون وزير الخزانه الأمريكي للمسئولين عن بعض البلدان العربية «ساعدوا مصر كي يبقي أنفها فوق الماء أما فمها فعليه البقاء تحت الماء». ودارت الأيام دورتها فصار العجز الاقتصادي ظاهرا بعد حرب أكتوبر التي تفاخرت بها الأمة من محيطها إلي خليجها، وابتلع المصريون مرارة الصبر دون سؤال أحد. وكان التقارب المصري الأمريكي هو بوابة الرقص لمزيد من ثراء المتوحشين الذين نمت مخالبهم منذ بداية حكم السادات وصولا إلي اغتياله برصاصات التأسلم، ولندخل مع مبارك في ثلاجة التجميد بدعوي الاستقرار. ولا داعي لتذكر كيف تحملنا عبء التجارة بدين الله ثم نفضنا عن كاهلنا سفراء احتلال الإرادة المصرية لمصلحة قطر وتركيا، وخضنا رحلة اختيار عبد الفتاح السيسي الذي رسم خطة انتصار جديدة بدأت بالانتصار علي «فيروس سي» ودخلت في مواصلة مقاومة التسرب من التعليم برعاية مدارس الفصل الواحد بالقري ثم بناء مساكن آدمية لمن اغتيلت آدميتهم في العشوائيات. وعلي الرغم من متاعب اليوم العادي علي الغالبية فإننا تحملنا ما عجز السادات عن تطبيقه وهو رفع الدعم وصار ذلك هو العفريت الذي خاف منه مبارك. أكتب ذلك لأني لست صاحب بطاقة تموينية ولا أستحقها، ولكن لماذا يتم عقابي كواحد من الطبقة الوسطي فأشتري رغيف الخبز بخمسة وسبعين قرشا في حي المهندسين ويقال إنه يصل إلي جنيه في بعض الأحيان؟ ولماذا نجد رغيف الخبز في باريس وهي إحدي العواصم الرأسمالية في الدنيا وهي تبيع الخبز بالوزن بالسعر المتفق عليه في كل أنحاء فرنسا العلني دون دعم أو خلافه؟ والسبب ببساطة أنه في الدول الرأسمالية هناك هامش ربح واضح لكل سلعة. عن نفسي أقرر أني راقبت اثنين من وزراء التموين والتجارة، أولهما الجليل العالم جودة عبد الخالق الاشتراكي العتيد الذي تعاون مع المصرية حتي النخاع التي تشم عن بعد رائحة اي تدخل أجنبي في الأمر المصري فايزة أبو النجا التي فضحت المؤسسات التي تقوم بالتجسس تحت مسمي خدمة المجتمع المدني، وهي المؤمنة بأن التعاون الدولي يقوم علي الشراكة لا التبعية، وقد تعاون الاثنان في إقامة عدة أفران مليونية يمكنها إنتاج ملايين الأرغفة كي تصل إلي المستحقين سواء أصحاب البطاقات التمونية بالسعر المدعم ولغيرهم بالسعر العادي دون دعم. وطبعا لا يمكن أن يصل السعر غير المدعم لخمسين قرشا فما بالك ببيعه بخمسة وسبعين قرشا أو جنيه كامل؟ وثاني من أعرف من وزراء التموين هو المقاتل علي المصيلحي الجاد خريج الفنية العسكرية الذي عليه أن يعرف أن الطبقة الوسطي هي قائدة تطور المجتمع ويعلم أن جميع الأنظمة رأسمالية أو غيرها تضع هامش ربح للسلع الأساسية وأولها رغيف الخبز. وأتمني أن يحدث اجتماع مع ممثلي المخابز وليكن تحديد هامش ربح لبيع الرغيف غير المدعم هو بداية للتحكم في بقية الأسعار، لأن الطبقة الوسطي لا تستطيع أن تقول كلمة ماري إنطوانيت «إن لم تجد الخبز يمكنك أن تأكل الجاتوه». لمزيد من مقالات ◀ منير عامر