شهدت أسواق المال العالمية حالة من التوتر والاضطراب خلال الفترة الماضية عقب ارتفاع العملة الرقمية المسماة «بتكوين» إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق حيث تخطت الأحد عشر ألف دولار خلال التداول الذى جرى بالأسواق أخيرا، مرتفعة بنحو أكثر من عشرة أمثال قيمتها منذ بداية العام وحتى الان ومحققة أكبر مكسب بين جميع أنواع الأصول. ولذلك استحوذت على اهتمام العديد من المسئولين والاعلاميين فخرجت المتحدثة باسم البيت الأبيض لتعلن ان الإدارة الامريكية تتابع عن كثب التطورات فى أسعار هذه العملات، خاصة بعد ان تزايد التعامل عليها داخل الأسواق الامريكية بصورة كبيرة فى ظل زيادة الطلب العالمى عليها. وهذه العملات هى عملات الكترونية افتراضية ليس لها وجود ملموس ولايمكن رصد حركتها بالأسواق الدولية لكونها تتداول عبر الأشخاص والمؤسسات عن طريق الانترنت، وتستخدم التشفير وقاعدة بيانات تسمح بتحويل الأموال بسرعة وسرية خارج نظام الدفع المركزى التقليدي. وتتميز بأنها عملة لا مركزية، أى لا يتحكم بها غير مستخدميها، ولا تملك رقما متسلسلا ولا تخضع لسيطرة الحكومات والبنوك المركزية كالعملات التقليدية، بل يتم التعامل بها فقط عبر شبكة الإنترنت دون وجود فيزيائى لها. وبالتالى تم تجاوز نظام التداول النقدى التقليدى بعملة غير ملموسة بعيدة عن أعين السلطات الرسمية، أو وجود تغطية من الذهب أو عملات أجنبية تدعمها وإعادة الناس إلى عالم بلا قيود وقد جاءت نشأتها خلال فترة التسعينيات، وانتشرت بشدة عقب الأزمة المالية العالمية عام 2008 حيث سعى عدد من المبرمجين لتأسيس العملات الرقمية، وكانت هذه المحاولات غالبًا ما تفشل لأسباب عديدة أهمها غياب الهيكل التنظيمى والتشريعي، وانخفاض عدد مستخدمى الإنترنت فى العالم انذاك. وفى عام 2008، ومع تلقى الاقتصاد العالمى ضربات موجعة بفعل الانهيار المالى وبدافع التخلص من سيطرة الحكومات، وانعدام الثقة المدفوعةً بالتوجس العام بانهيار النظام المالى العالمى قام شخص يدعى ساتوشى ناكاموتو بنشر ورقة عن البيتكوين كنظام عملة إلكتروني، وفى يناير2009 تم إطلاق أول عملة وكانت قيمتها ضعيفة للغاية مع العلم بان هوية المؤسس غير مؤكدة. تزايد التكامل المالى العالمى بصورة كبيرة أدى إلى المزيد من تفاقم المشكلة نتيجة لتقليل القيود على رأس المال والتقدم فى وسائل الاتصالات السلكية واللاسلكية، وزيادة توافر المعلومات، وهى عوامل ساهمت فى التسريع من هذه العملية حيث زادت الحيازة فى الأصول عبر الحدود بصورة كبيرة. وظهرت العولمة المالية خاصة مع تحرير الدول لحساباتها الرأسمالية، وتطور البيئة التى تعمل فيها السلطات النقدية ولذلك حدثت تغييرات كبيرة فى الأسواق وتحركات الأموال كما توسع دور المصارف الخاصة فى إيجاد السيولة الدولية التى انفكت أواصرها بنمو التجارة الدولية بحيث أصبحت الصفقات تتم خارج إطار رقابة البنوك المركزية، ولذلك تغيرت العلاقة بين تدفقات رءوس الأموال وأسعار الصرف وحركة التجارة الدولية، وتراخت الصلة بين النظام النقدي، والنظام التجاري. وأهم ما ميز هذه التطورات غياب التمييز التقليدى بين الأنظمة المالية القائمة على البنوك وتلك القائمة على الأسواق، خاصة مع إزالة القيود المالية وازدياد الدور الذى تلعبه المشتقات المالية الجديدة والتى أطلق عليها الملياردير الأمريكى وارن بافيت «أسلحة الدمار الشامل المالية». وعلى العكس من ذلك فقد كان آلان جرنسبان محافظ الفيدرالى الأمريكى (1987 2006) من أشد مناصرى هذه المشتقات ورأى فيها نعمة على البنوك وغيرها من الوسطاء الماليين وقد اختلفت الآراء بشدة حول هذه العملات واثارها على الاقتصاد العالمى اذ يرى البعض أنها ليست بالحجم الذى يشكل خطراً كبيرا، وان ما يحدث بالأسواق حاليا ما هو الا فقاعة مضاربة وليس منطقيًا ولا واقعيًا وبالتالى فان انفجار الفقاعة بات قريبًا. خاصة وأنها لا تملك مقومات الوجود، مع العلم بان البيتكوين ليست العملة الرقمية الوحيدة اذ يوجد نحو 11 عملة اخري، ولكنها العملة الوحيدة التى تحولت لأداة مضاربة وتضخمت بهذا الشكل» اذ تستحوذ على 55% من سوق هذه العملات يليها الاثيريوم بنحو 15% ثم البيكوين كاش 8% وريبل 4%. وجدير بالذكر ان القيمة السوقية للعملات الرقمية مجتمعة وصل إلى 334.3 مليار دولا وتبلغ القيمة السوقية للبيتكوين نحو 185.4 مليار دولار. وكانت نيويورك أول مكان فى العالم ينظم ويشرع العملة الرقمية، اذ عملت إدارة الخدمات المالية على تنظيم خدمات ومنتجات هذه العملات وكانت ألمانيا من أولى الدول التى اعترفت حتى الآن بالعملة الرقمية. كما أقرت اليابان قانونا يسرع التعامل بها فى ابريل 2017 ناهيك عن الإعلان عن أن مجموعة «سى إم إي» أكبر مشغل لبورصات المشتقات فى العالم ستبدأ فى طرح العقود الآجلة للبيتكوين فى بورصة شيكاغو التجارية كما يعتزم أكبر مصرف فى كوريا الجنوبية من حيث الأصول إطلاق خدمة خزانة استجابة للطلب القوى عليها فى البلاد ويرى المؤيدون لهذه العملات انها أداة مهمة لنقل السيطرة والرقابة إلى يد الافراد، بدلاً من الحكومات والبنوك التقليدية. خاصة فى ظل وجود أكثر من 25 مليار من سكان الأرض لا يمتلكون حسابات بنكية وهذه العملة الرقمية ستساعد كل فرد للحصول على منفذ للعمليات المالية دون الحاجة إلى وسيط وتعقيدات بيروقراطية. كما انها جزء لا يتجزأ من التطور التكنولوجى والعلمى الذى يعيشه العالم وأنه من المستحيل أن يستمر التعامل بالعملات المتعارف عليها بالشكل الحالى للأبد وعلى الجانب الآخر يشكك كثيرون باستدامة العملة الرقمية نظراً لأنها لا تحظى بثقة وقبول الناس ولأنها تفتقد الأطر القانونية والتنظيمية عالمياً لكى يتم تداولها. وبالتالى هناك العديد من التخوفات بشأن إمكانية استغلالها للقيام بعمليات غسيل أموال القذرة وتمويل الإرهاب، اوكوسيلة لتسوية أعمال قد تكون إجرامية أو للتلاعب والقرصنة ولهذه الأسباب فقد أحسن البنك المركزى المصرى صنعا حين أصدر قراره بمنع التعامل مع هذه العملات، وكذلك مطالبة النيابة العامة بضرورة إصدار تشريع لمنع التعامل فى هذه العملات مع تسليمنا الكامل بصعوبة هذه المسألة فى ظل التطورات التكنولوجية الحديثة اذ إنه لا يمكن للبنك المركزى حظر كل تطبيق إلكترونى يسمح بتبادل وشراء هذه العملات والمشتقات، ولكنه يستطيع القيام بحملات إعلامية للتوعية بمخاطره. لمزيد من مقالات ◀ عبد الفتاح الجبالى