هل هناك رهابُ من «الاجتهاد» و«التجديد» و«الإصلاح» فى الفكر الدينى المصرى المعاصر؟ لماذا هذا الولع بمفهوم الاتباع، والنقل عن الأقدمين فى خطابات بعض رجال الدين والأحرى الأغلبية الساحقة منهم؟ لماذا لا يبادر بعضهم بمواكبة التغيرات والتحولات النوعية فى عالم التقنية وثوراتها وصولاً إلى لحظة الثورة الرابعة والرقمية بامتياز، والتى ستحدث تحولات نوعية فى الطبيعة الإنسانية، من الإنسان الطبيعى إلى الإنسان الرقمي؟ هل يتابع بعضهم عالم الاستنساخ البشرى والحيوانى على الرغم من بعض القيود القانونية التى وضعتها بعض الدول عليه؟ ألا تؤثر التغيرات بل والتحولات التقنية على الوجود والشرط الإنساني؟ هل مجموع المعرفة الإنسانية المتراكمة من الأزل إلى آخر نظرية فى العلوم الاجتماعية، قادرة على استيعاب كل هذه التغيرات النوعية والكيفية الكبرى؟ هل الأبنية النظرية المتوارثة، بل والجديدة قادرة على تفسير ما يحدث حولنا وبنا؟ الأسئلة السابقة ليست جديدة ولكنها تستعاد كلما ألم بنا حادث جلل كالعملية الإرهابية الدامية التى تمت أخيرا فى مسجد الروضة بمحافظة شمال سيناء وأدى إلى استشهاد أكثر من 305 أشخاص، ومن تراكم هذا النمط من العمليات الوحشية تنبثق الأسئلة مجددًا كطائر الفينيق، ثم سرعان ما يتجاوزها صخب الأحداث، والمشكلات والأزمات الصعبة، وتعود مجددًا بعد كل حادث إرهابى أليم، يترك وراءه ضحايا ومصابين ودماء وأشلاء وأطلالا، وألما بلا حدود! تقديس الاتباع والنقل من بعضهم عن موروث القدماء من الفقهاء والمفسرين وفتاواهم وتفاسيرهم هو جزء من استمرارية الظاهرة فى العالم الكتابى الورقى ثم الرقمي، وأقصد هذا الاعتماد التأسيسى على الذاكرة والحفظ والاستظهار، سواء الحرفى للمادة المنقولة شفاهة أو فى كتابتها، وقلة من رجال الدين هى التى تحررت قليلاً أو كثيرًا من الناحية الأسلوبية فى كتابة المقالات أو الكتب عن ذات الموضوعات الأساسية فى أصول الفقه، أو الشريعة، أو التفسير، أو التاريخ الإسلامي. هذا التماهى بين العقل الاتباعي، وبين النصوص الفقهية والتأويلية ... إلخ المؤسسة، يعكس حالة عطالة وتوقف عن التفكير وإعمال العقل والوجدان فى بناء المعرفة والوعى الديني، ويشير إلى حالة نكران ونفى للواقع الموضوعى وتاريخيته فى التعامل مع الموروث الوضعى الإنساني، الذى أسسه وبنى عليه بشر، بكل تصوراتهم، وتفسيراتهم وتأويلاتهم وآرائهم الفقهية، والتأصيلية للعقائد والقيم والتاريخ الإسلامى وشخصياته الكبرى السياسية والتى لعبت أدوارًا مهمة فى تاريخه. هذا شيء والمقدس - تنزه وتعالى- شيء آخر تمامًا. الفقهاء والمفسرون وكتاب السير للقادة العظام، هم شخصيات رائدة فى تاريخ الفكر الإسلامى فى كافة حقوله، ولكنهم بشر، وأفكارهم على أهميتها تخضع للدراسة، ونقد بعض آرائهم وتفسيراتهم وتعديلها، وهو أمر لا يمس أصول الدين ولا قواعده ولا قيمه الفضلى! هذه النزعة الحرفية والنصوصية النقلية تعكس إراكا للدين وكأن الحفاظ عليه يتم من خلال وضع موروثاته الفقهية، والتفسيرية فى إطار سياجات دفاعية عنه، وكأنه يخشى عليه من التفسيرات الجديدة، والاجتهادات المغايرة عن تلك التى أنتجها الآباء المؤسسون للمذاهب والمدارس الفقهية السنية الحنفية والشافعية والمالكية والحنبلية وتابعيهم وتابعى التابعين ... إلخ! وغيرها من المذهب الشيعى الأثنا عشري، والأباظية ... إلخ! هذا العقل النقلى الشفاهى وتجلياته الكتابية والرقمية، هو الجذر الذى تناسلت ولا تزال اتجاهات ومدارس التكفير الدينى التى لا تزال تطرح آراء بعض الفقهاء الغلاة التى طرحوها فى ظروف وسياقات سياسية وعقائدية حركتهم ودفعتهم لهذا الغلو التكفيرى على خلاف مع فقه الجمهور الأكثري! الاجتهاد ابنُ لتكوين ثقافى يتسم بالتعدد والتنوع فى تكوين رجل الدين وثقافته، وتعبير آنٍ على انفتاح رجل الدين على معطيات عصره وظروفه وثقافاته وعلومه ومعارفه وتطور مستويات الوعى الاجتماعى والثقافى على نحو يسمح له، بتحليل المشكلات والظواهر الجديدة، ويقدم التفسيرات الملائمة القديمة أو الجديدة، التى تجعل من المؤمن فى حالة من التوازن بين عقائده العظمى والقواعد الإيمانية، وبين حياته، وما تطرحه عليه من مشكلات وتوترات وأمراض وطموحات ونزوات وصراعات مع الآخرين. والأخطر الظواهر الجديدة والثورات التقنية التى هى تعبير عن تكوين عقلى وإبداع نظرى وتطبيقى فى العلوم الطبيعية والإنسانية وثوراتها، وليست محضُ أداة للاستخدام الإنسانى فقط لتطوير حياته وتحسين ظروفه والارتقاء به فكرًا وسلوكًا وعمرانًا وتخطيطًا! لماذا ظهرت الاجتهادات الإصلاحية منذ نهاية القرن التاسع عشر، وحتى النصف الأول من القرن الماضي؟ هذا الإحساس العميق بالتخلف التاريخي، منذ صدمة مدافع نابليون، واستجابة محمد على باشا وإبراهيم باشا، وإسماعيل باشا بالفجوات التاريخية بيننا وبين الآخرين، وتطلعهم الطموح لبناء دولة وجيش عصرى آنذاك، من خلال إعادة تنظيم المجتمع وأجهزة الإدارة، والوعى بأن هذا لا يتم إلا من خلال هندسة قانونية حديثة، والبعثات الأجنبية إلى أوروبا، هل عدم الوعى الاجتماعى والسياسى بصدمات التحولات الكبرى، هو أحد أسباب جمودنا وتخلفنا؟ هل هذا يعود إلى انهيار مستويات التعليم العام والجامعى والديني؟ هل جمودنا الثقافي؟ هل هى القيود على حرية العقل المصرى وغيرها من الحريات العامة؟ نعم فلا اجتهاد ولا إبداع بلا حريات قطعًا! هل هو تبلد الإحساس شبه الجمعى بحجم ونوعية تدهورنا وإمبراطورية التفاهة التى تشيع اللامبالاة والأنامالية والعبث فى حياتنا؟ لمزيد من مقالات نبيل عبد الفتاح