أضحت الصحافة الرقمية أو ما يعرف ب «صحافة الإنترنت» تشكل تهديدا وجوديا مباشرا على مستقبل الصحافة الورقية واستمرارها، لا سيما بعد أن نجحت الأولى فى استقطاب وجذب عدد كبير من القراء على حساب الأخير سواء محليا او إقليميا، وأدى ذلك إلى تأزم الأوضاع المالية داخل المطبوعات الورقية، بل وعلى بقائها فى حد ذاته. ويعد تراجع معدلات مقروئية الصحف الورقية وتوزيعها مشكلة دولية تعانيها منها الصحافة العالمية بأسرها، ويعضد هذا الطرح أن هيئة الصحافة فى كوريا الجنوبية، تلك الدولة التى تعد من أبرز نمور الصناعة الآسيوية وأكثر شعوبها قراءة وتقدما فى مجال التعليم، أكدت بناء على دراسات دورية وإحصائيات رسمية واستطلاعات رأى شعبية أن الصحف والمطبوعات الورقية المحلية بدأت تعانى كثيرا منذ بداية العقد الثانى من الألفية الثالثة بسبب نجاح الصحافة الرقمية فى سحب البساط من تحت أقدامها. وأوضحت الهيئة أن الإحصائيات الصادرة عن جهاز مراجعة نسب أو معدلات توزيع ومقروئية الصحف الورقية فى كوريا الجنوبية تشير إلى أن معدلات قراءة تلك الصحف تراجعت من 82.1% عام 2011 إلى 20% فقط عام 2016، مما يعنى أنها تراجعت بمعدل أكثر من 60% فى غضون 4 سنوات فقط. كما أظهرت تلك الإحصائيات أيضاً أن معدل شراء واستخدام المواطنين الكوريين لتلك الصحف تراجع أيضا من 51.5% عام 2011 إلى 20.9% عام 2016. وفى مقابل ذلك، ارتفع معدل قراءة وتصفح المواطنين للصحف الرقمية بشكل مكوكى من 19% عام 2011 إلى 70.9% عام 2016. وأكدت تلك الإحصائيات أن هذه الفجوة آخذة فى الاتساع لمصلحة الصحافة الرقمية، وأنه لا سبيل لإيقافها سوى تقديم حلول عير تقليدية من شأنها أن تساعد الصحف الورقية فى استعادة دورها. وفى ضوء هذه المعطيات، وبما أن الكوريين يفكرون دائما خارج الصندوق، وبما أن الصحافة ولا سيما الورقية هى واحدة من أهم الصناعات الفكرية الكورية التى تسهم فى تكوين الوعى وتشكيل الرأى العام فى البلاد، فقد طرح الأكاديميون والمتخصصون فى مجال الصحافة حلولا ابتكارية، بعضها بدأ التنفيذ بالفعل منذ أوائل العام الجاري، وبدأ يؤتى ثماره الآن فى العديد من الصحف الكورية. وتتمثل أبرز هذه الحلول فى حتمية تركيز الصحف الورقية على كتابة الموضوعات التحليلية والقصص الخبرية الأكثر عمقا بدلا من الاقتصار على نشر الأخبار العادية أو بالأحرى الأخبار العاجلة التي تحظى فيها الصحافة الرقمية بميزة أسبقية النشر دائما، فضلا عن استهلاك وسائل الإعلام المرئية والمسموعة لمثل هذا النوع من الأخبار وتكراره على رأس كل ساعة. ويتمثل العامل الثانى فى ضرورة أن تفرد كل مؤسسة أو صحيفة ورقية قسما مستقلا للصحافة الاستقصائية التى تعتمد على التجربة الذاتية للمحرر، مما يمكنه من طرح تجربته وأفكاره بشكل مختلف ومتميز يجتذب القاريء ويروق لمزاجه. ويتضمن العامل الثالث حتمية اختلاف النوع (أى الذكور والإناث) ليس فقط داخل المؤسسة أو الصحيفة الواحدة وإنما داخل كل قسم على حدة، بما يضمن تنوع الطرح واختلاف الفكر وتعدد وجهات النظر بين المحررين والمحررات، وبما يخدم فى النهاية نجاح منظومة الصحافة الورقية فى جذب أكبر عدد من القراء من الجنسين، وفى هذا الصدد يشار إلى أن نسبة الصحفيات «الإناث» داخل الصحف الكورية لم تتعد حاجز 28.9% حتى عام 2016 مقابل 71.1% للمحررين الذين وصلت نسبة من يعمل وقتا كاملا منهم الى 58% مقابل 23.2% للصحفيات. ويركز العامل الرابع على ضرورة السماح لأكبر عدد ممكن من المحررين الذكور للعمل فى الأقسام المتخصصة فى شئون المرأة كقسم المرأة وقسم الثقافة النسائية كالطهو والموضة وغيرها، لأن ذلك يساعد فى جذب أكبر عدد من القراء من النوع الآخر»النسائي» الذى سيحرص دائما على قراءة ومعرفة وجهة نظر المخالف فى النوع «الذكور» بشأن إحدى القضايا التى تخصه والعكس. ويستلزم العامل الخامس ضرورة تحرى المحرر لأقصى درجات الحقيقة قبل نشر الخبر وحتمية ابتعاده عن الأخبار غير الصحيحة أو المغلوطة، بما يساعد فى بناء جدار من الثقة المتبادلة بينه وبين القاريء، ويضيف مزيدا من المصداقية للمطبوعة. وبالتالى زيادة المقروئية.سادسا، استحداث قسم خاص لنشر وجهة نظر القراء وليس الكتاب، ولكن للوقوف على آرائهم وتطلعاتهم وكافة احتياجاتهم ومتطلباتهم وما ينتظرونه من كل مطبوعة على حدة، ببساطة لأنه من غير المقبول أن يستمر محررو مطبوعة ما فى الكتابة لقراء لا يعرفون شيئا عن وجهة نظرهم وما يريدونه تحديدا من مطبوعتهم.سابعا، تدشين قناة فضائية ووحدة إذاعية على الأقل داخل كل مطبوعة تنصب مهامها على بث الأخبار العاجلة أولا بأول سواء عبر وسائل الإعلام الثابتة كالتليفزيون والراديو أو عبر وسائل الإعلام المحمولة كأجهزة الموبايل الذكية وغيرها من وسائل التقنية الحديثة، بينما ينصب دور الصحافة الورقية على تناول ذات الأخبار ولكن من خلال قصص أكثر عمقا وتحليلا. ويسلتزم هذا العامل ضرورة تدشين غرفة أخبار مشتركة بين محررى الكتابة والبث والإذاعة بما يضمن التنسيق البينى بين الجميع لخدمة مستقبل الصحيفة واستمرار عملها وزيادة معدلات توزيعها وبثها وإذاعتها. وفى النهاية، لا تعد صحيفة «تشوسون إلبو» الكورية الجنوبية فقط واحدة من المطبقين لاستراتيجية (31) التى تعنى «مطبوعة، فضائية، إذاعة» ، وإنما تعد واحدة من أكبر وأهم المستفيدين من تنفيذها، فقد أكد جهاز مراجعة نسب ومعدلات توزيع الصحف الكورى الجنوبى أن هذه الصحيفة هى الأكثر توزيعا فى البلاد بمعدل مليون ونصف المليون نسخة يوميا، والآن، أما آن للصحف المطبوعة فى بلادنا أن تستفيد من التجربة الكورية الناجحة بما يحسن أوضاعها ويضمن استمرارها للحفاظ على مستقبل الصحافة الورقية ومستقبل الصحفيين العاملين فيها؟ تفنيدا لمقولة إن عصر الصحف المطبوعة انتهى؟.