مع اقتراب تاريخ الذكرى المئوية لاندلاع ثورة اكتوبر 1917 في السابع من نوفمبر الحالى (25 اكتوبر وفق التقويم اليولياني القديم) تتزايد حدة الجدل حول قرار الكرملين بعدم الاحتفال بهذه المناسبة التى طالما كانت العيد القومى الأول للاتحاد السوفيتى السابق، فى نفس الوقت الذى يتواصل فيه الجدل حول دور اليهود الروس فى هذه الثورة وما تلا ذلك من مناسبات، ما جعل الكثيرين يصفونهم بحصان طروادة فى الكرملين. بعد سلسلة من الأحداث العاصفة التى يقف الكثير منها على طرفى نقيض مع الآخر،استقرت موسكو على ضرورة التريث فى تقدير أحداث الماضى وقبول التاريخ على «عِلاًتِه»، وعدم الانسياق وراء اعتبار أن كل الماضى كان «أسود». ومن هنا كان توقف موسكو عن «حملة» رفع التماثيل والنصب التذكارية التى طالما خلًدت رموز النظام السوفيتي القديم، فيما تواصل الابقاء على جثمان لينين في ضريحه فى الميدان الأحمر، فى نفس الوقت الذى أعادت فيه الاعتبار إلى بعض رموز روسيا الامبراطورية منها والقيصرية، بما فى ذلك بعض ممثلى عائلة رومانوف التى حكمت روسيا لما يزيد على ثلاثة قرون. ويتوقف المراقبون فى روسيا وخارجها عند عودة موسكو إلى ما هو أقرب إلى التقديس لشخصية ستالين الذى كان تعرض لأقسى حملات التشكيك والتشويه مع أولى سنوات البيريسترويكا وما بعدها قبيل نهاية القرن الماضى، حتى جاء الرئيس فلاديمير بوتين ليجد فيه ما يستوجب التقدير والاشادة، وهو الذى وقف وراء تحقيق النصر على الفاشية فى الحرب العالمية الثانية، ووضع الاتحاد السوفيتي فى مصاف الدول العظمى إلى جانب ما حققته البلاد فى عهده من انجازات علمية وعسكرية خارقة. على أن الاكثر إثارة في تاريخ تلك الحقبة يظل وحسب تقدير الكثيرين من علماء التاريخ والسياسة ، فى الدور الذى قام به يهود روسيا في تاريخها الحديث. وفى هذا الشأن يقول ليونيد بارفيونوف المعلق التليفزيونى الشهير فى فيلمه الأكثر شهرة «اليهود الروس» فى تعليقه على استيطان الكثيرين من اليهود فى روسيا بعد انفصال بولندا عن الإمبراطورية الروسية: «أن اليهود لم يأتوا إلى روسيا، بل أن روسيا أسلمت نفسها إلى اليهود»، فى اشارة أكثر من مباشرة إلى الدور الهائل الذى لعبه ويلعبه اليهود فى تاريخ روسيا .. فى الماضى وفى الحاضر. ولعل متابعة ما قام به اليهود فى تاريخ روسيا وخاصة منذ اندلاع «ثورة فبراير 1917 وما بعدها حتى استيلاء البلاشفة على «قصر الشتاء» مقر حكم القياصرة فى سان بطرسبورج فى 25 اكتوبر من نفس العام واعلان لينين عن نجاح «الثورة الاشتراكية»، تشير إلى أدوارهم المحورية فى رسم سياسات الدولة وتوجيهها لتحقيق ما أعلنوه من أهداف. ويكفى أن نستعرض أسماء قيادات ثورة أكتوبر لتأكيد أن «اليهود الروس»، كانوا وراء تدبير وتنفيذ مخطط هذه الثورة وما تلاها من أحداث. ومن هؤلاء وعلى رأس هؤلاء كان فلاديمير اوليانوف لينين، ورفاقه جريجوري زينوفييف وليف تروتسكي مؤسس الجيش الاحمر، ودزيرجينسكي اليهودى البولندى الاصل مؤسس الكى جى بى (لجنة أمن الدولة أو اللجنة الاستثنائية «تشكا» حسب التسمية القديمة)، وآخرون كثيرون. ولعل مبالغة اليهود الثوريين فى تنفيذ «مخطط الثورة»، يمكن أن تفسر ما عاد وسجله الأديب الروسى الأشهر ألكسندر سولجينتسين الحائز على جائزة نوبل للآداب فى مؤلفه الأضخم «مائتا عام معا» (1795-1995) الصادر فى موسكو عام 2001 حول اليهود فى روسيا. قال سولجينتسين فى اشارته إلى الدور الهدام الذى لعبه اليهود فى تاريخ روسيا «يجب على الشعب اليهودي تحمل المسئولية عما اقترفه ممثلوه من السفاحين الثوريين ومن سار خلفهم على السلم الوظيفى . يجب عليهم تحمل المسئولية أمام أنفسهم وأمام الله قبل أن يكون ذلك أمام الأخرين». ولعل ما كتبه سولجينتسين عن اليهود ودورهم على مدى تاريخ علاقتهم بروسيا، يعيد إلى الأذهان ما سبق وكتبه ميخائيل ديرجافين المؤرخ والأديب الروسى فى كتابه «عن اليهود» وتناول فيه علاقاتهم مع القياصرة الروس ومنهم فلاديمير موناماخ الذى طردهم من كييف فى عام 1113، وايفان الرهيب الذى أصدر أمرا مماثلا بطردهم من نوفجورود فى عام 1528، ما كان بداية رحلة الشتات فى مختلف أرجاء الإمبراطورية الروسية ومنها بولندا التى عادوا منها إلى روسيا مع نهاية القرن التاسع عشر ليكونوا نواة الحركات الثورية حتى ثورة أكتوبر 1917 ، وما بعدها من أحداث. وإذا كان فيدور دوستويفسكي الكاتب الروسى الشهير أوجز العديد من أسباب كراهية الروس لليهود فيما كتبه تحت عنوان «المسألة اليهودية» والتى أحسن ترجمتها الدكتور أحمد الخميسى إلى العربية، فإن هناك من مشاهير الأدباء الروس من مضى إلى ما هو أبعد مما قاله دوستويفسكي حول أسباب كراهية الكثيرين لليهود فى روسيا، ومنهم شاعر روسيا العظيم ألكسندر بوشكين بما صاغته ريشته فى مقطوعته الغنائية «الشال الأسود»، ومسرحيته الشعرية «الفارس الأسود». وكان ديرجافين تناول فى مؤلفه الشهير الكثير من مراحل حياة اليهود فى الشتات وقال «أنهم وعلى مدى قرون طوال تشتتوا فى أرجاء متفرقة من بقاع الأرض على مدى قرون طوال، تمتعوا خلالها باحتقار ومقت الأخرين جزاء خيانتهم وما ارتكبوه فى حق جيرانهم من شرور وآثام». ورغما عن كل ذلك فقد نجح اليهود فى «ركوب الموجات الثورية»، حين كان الأمر يتطلب ذلك، كما حدث لدى انضمامهم إلى كل الخلايا والحركات السرية التى تزعمت ثورة أكتوبر 1917، ليعودوا إلى الانضمام إلى «الصحوة الثقافية والأدبية» ابان سنوات حكم الزعيم السوفيتي الأسبق نيكيتا خروشوف بعد رحلة من الآلام والمعاناة ابان سنوات حكم سلفه ستالين الذى كان انقلب عليهم بعد خيانتهم له وهو الذى ساعدهم فى استيطان فلسطين واعلان دولة اسرائيل التى كان أول من اعترف بها فى 15 مايو 1948، بعد فشل محاولات واشنطن لشراء شبه جزيرة القرم لتحويلها إلى وطن قومى لليهود بدلا من فلسطين فى عشرينيات القرن الماضى. وكان لينين قد رهنها مقابل 20 مليون دولار، وقرر ترومان اخلاءها من أسطول البحر الأسود، ليعود خروشوف ويهديها إلى أوكرانيا خشية مصادرتها وفاء لديون أمريكية!!. ويذكر الكثيرون فى هذا الشأن ما سبق وأعلنته الدوائر اليهودية بدعم مباشر من الولاياتالمتحدة وقوف الكثيرين منهم وراء سياسات البيريسترويكا والجلاسنوست التى فجرت الإتحاد السوفيتي من الداخل وأضرمت نيران الخلافات بين جورباتشوف ويلتسين، ما أسفر فى نهاية المطاف عن انهيار الدولة. ولم يكن بخاف على أحد وقوفهم وراء يلتسين فى تسعينات القرن الماضى بمباركة واشنطن والدوائر الغربية التى كانت اضمرت خطتها لتدمير روسيا وتقسيمها إلى 52 ولاية، ودعمت الحركات الانفصالية فى شمال القوقاز، بما كانت معه قاب قوسين أو أدنى من اللحاق بمصير الاتحاد السوفيتى. لكن وِشأنهم على مر العصور اضطر اليهود مرة أخرى إلى الانحناء أمام سطوة التاريخ، مع بزوغ نجم فلاديمير بوتين لتجاوز العاصفة التى هبت لاستعادة روسيا لوقارها ومكانتها بعد هوان دام لسنوات طوال. وفى هذا الاطار نجدهم اليوم وقد تفرقوا أشتاتا وجماعات، للانخراط بين صفوف العاملين فى مختلف مرافق الدولة ومؤسساتها الكبرى ومنها الكرملين بما يجعلنا نستعيد معهم حكاية «حصان طروادة» التى طالما وجد يهود روسيا فيها السلوى والملاذ.