كيف حاولت واشنطن شراء شبه جزيرة القرم لتحويلها إلى وطن قومى لليهود بدلا من إسرائيل فى عشرينيات القرن الماضي؟.. رهنها لينين مقابل 20 مليون دولار، وأرادها ستالين وطنا قوميا لليهود بدلا من فلسطين، وقرر ترومان إخلاءها من أسطول البحر الأسود، ليعود خروشوف ويهديها إلى أوكرانيا خشية مصادرتها وفاء لديون أمريكية! شبه جزيرة القرم جنوب البحر الأسود طالما كانت ساحة للمواجهة بين أعتى إمبراطوريات القرون الماضية، فيما تتحول اليوم إلى قنبلة موقوتة تنذر بالانفجار. تاريخ الأمس القريب يقول إنها شهدت معارك ضارية شاركت فيها وللاسف قوات مصرية لصالح الامبراطورية العثمانية تحت رعاية مباشرة من الامبراطوريتين البريطانية والفرنسية ضد الامبراطورية الروسية القيصرية فى حرب لا ناقة لمصر فيها ولا جمل، فى عام 1854. وعلى الرغم من انتصار العثمانيين على القوات الروسية آنذاك، فإن هذه القوات سرعان ما عادت والحقت بهم شر هزيمة فى عام 1874، لتحتفظ بالقرم منذ ذلك الحين وحتى وضع الأمريكيون ومعهم اليهود أعينهم عليها اعتبارا من مطلع القرن العشرين . «حكاية القرم» تتسم بقدر هائل من الاثارة على ضوء ما يجرى اليوم من تجاذبات سياسية وعسكرية عقب اندلاع نيران الأزمة الأوكرانية وإعلان مواطنى القرم عن اصرارهم على الانفصال عن أوكرانيا والانضمام الى روسيا الاتحادية. البداية تستمد خيوطها من مطامع الصهيونية العالمية ومحاولات الوكالة اليهودية الأمريكية التى استهدفت بناء وطن قومى لليهود فى شبه جزيرة القرم، وتختلط مع ما تحتفظ به الذاكرة من حقائق حول ما أميط عنه اللثام من حقائق ومعلومات بشأن ما تعرض له وزير خارجية الاتحاد السوفيتى الأسبق فياتشيسلاف مولوتوف اليهودى الأصل من متاعب اضطر معها وتحت ضغط ستالين الى طلاق زوجته بسبب تجسسها لصالح جولدا مائير أول سفيرة لاسرائيل فى موسكو،وهو ما كشف عنه ميخائيل بولتورانين أول وزير إعلام للرئيس الروسى الاسبق بوريس يلتسين ونائبه الأول فى رئاسة الحكومة الروسية، استنادا إلى ما اطلع عليه من وثائق ارشيف ال «كى جى بي» بحكم تكليفه برئاسة لجنة الكشف عن وثائق «كى جى بي» (لجنة أمن الدولة). استعرض بولتورانين مطامع اليهود تجاه شبه جزيرة القرم وما فعلوه من أجل تحويلها إلى وطن قومى بدلا من فلسطين فى عشرينيات القرن الماضي. كشف وزير إعلام يلتسين عن الوقائع التى كان من أبرز أبطالها ستالين وروزفلت وجولدا مائير، إلى جانب ما قاله حول أسباب اضطرار ستالين إلى تهجير تتار القرم إلى سهوب سيبيريا وقازاخستان، تحت ضغط أمريكى من إخلاء شبه الجزيرة لتوطين اليهود الذين تدفقوا عليها، فى توقيت كانت الولاياتالمتحدة تنسج فيه حبائلها للانتشار على كل ضفاف البحر الاسود ما يعزل عمليا الاتحاد السوفيتى عن هذه البحيرة الدافئة . البداية نستمدها من إحدى حلقات برنامج «لحظة صدق» للتليفزيونى المعروف اندريه كاراؤلوف الذى استضاف فيها ميخائيل بولتورانين، الذى قال إن القصة متعددة الفصول وتبدأ حلقاتها منذ اولى سنوات الثورة البلشفية. وكان اليهود قد استشعروا مدى قسوة الازمة المالية التى داهمت السلطة السوفيتية وزعيمها فلاديمير لينين الذى كان مواجها بضرورة اعادة بناء الدولة بعد ما حل بها من خراب ودمار ابان سنوات الحرب الاهلية التى اندلعت عقب ثورة اكتوبر 1917. وفى عام 1922 نجحت اللجنة اليهودية الامريكية American Jewish Joint Distribution Committee, (جوينت) التى تاسست عام 1914 لتقديم الدعم الى يهود شرق اوروبا،فى اقناع لينين بجدوى شراء صكوك مالية تقدر بعشرين مليون دولار بنسبة فائدة 5% على أن تسدد بمقدار مليون ونصف مليون دولار سنويا، اعتبارا من عام 1945 على عشر سنوات بضمان 375 الف هكتار من أجود أراضى القرم مقابل انشاء «الجمهورية اليهودية السوفيتية الاشتراكية». وقبل لينين هذه الشروط التى التزم بها خلفه ستالين بناء على اتفاق وقعه مع الوكالة اليهودية فى عام 1929 بانشاء ما يسمى ب «كاليفونيا القرم». وللمزيد من تأكيد جدوى الاتفاق تقدمت اللجنة اليهودية الامريكية الى القيادة السوفيتية بالعديد من العروض ومنها إمداد شبه الجزيرة بأحدث المعدات والآلات الزراعية الامريكية، بل واقامت فى موسكو معرضا لهذه المعدات التى قالوا انهم سوف يرسلونها الى القرم ، وقام لينين بزيارته رغم مرضه عقب محاولة اغتياله ما كان مقدمة لقراره بالموافقة على توطين اليهود هناك. وتدفق اليهود على القرم لتظهر المزارع التعاونية (الكولخوز) والتى بلغ عددها 186 مزرعة، ومعها بدأ صرف أول القروض المالية التى كان التقاعس فى سدادها يعنى أحقية أصحاب الصكوك ممن بلغ عددهم 200 من اليهود الامريكيين فى ملكية اراضى القرم ومنهم الرئيس روزفلت وزوجته اليانورا والمليونير روكفلر والاقتصادى المعروف مارشال. ومن اللافت أن هذه القروض كانت تذهب إلى يهود القرم مباشرة دون رقابة الميزانية الاتحادية للدولة السوفيتية، وهو ما زاد من استفزاز تتار القرم الذين سارعوا الى الانتفاضة فيما تحدوا السلطة السوفيتية وراحوا يداهمون عربات القطارات التى كانت تصل محملة باليهود الى عاصمة الاقليم سيمفروبول ويرغمونها على العودة دون نزول أى منهم الى أراضى القرم. وهنا أدرك ستالين خطورة الموقف ليفاجأ الجميع باتخاذ قراره حول إنشاء المقاطعة اليهودية ذات الحكم الذاتى فى الشرق الاقصى على ضفاف المحيط الهادئ بعيدا عن القرم فى عام 1934 وهى المقاطعة الموجودة حتى اليوم وإن رفض يهود ذلك الزمان الرحيل اليها. واتخذ ستالين قراره بالتراجع عن تنفيذ فكرة انشاء الوطن القومى لليهود فى القرم، مؤكدا ان الاستمرار فى ذلك يمكن ان ينسف الاستقرار الذى تحقق على صعيد تعايش مختلف القوميات فى الاتحاد السوفييتى ولا سيما بعد الانتفاضات المتواصلة من جانب سكان القرم من التتار واليونانيين والالمان والبلغار. غير ان اللجنة اليهودية الامريكية وابرز ممثلى اللوبى اليهودى فى الولاياتالمتحدة سرعان ما عادوا لاستغلال الحرب العالمية الثانية لاحياء فكرة توطين اليهود فى القرم. وفى هذا الاطار عمدت القيادة الامريكية الى ممارسة الضغط على ستالين لتنفيذ ما سبق وجرى الاتفاق بشأنه. وكشف بولتورانين اول وزير اعلام ليلتسين ورئيس لجنة الكشف عن وثائق ال «كى جى بى» التى شكلها يلتسين فى حديثه الى صحيفة «ارجومينتى اى فاكتي» (وقائع وبراهين) الاسبوعية الروسية عن أن هناك من الوثائق ما تقول إن ستالين صارح زعيم يوجوسلافيا يوسف بروز تيتو فى حضور نائبه ميلوفان دجيلاس بأن الرئيس الامريكى روزفلت فاتحه فى مؤتمر طهران 1943 بضرورة الالتزام بما سبق الاتفاق حوله بشأن الاستمرار فى توطين اليهود فى القرم فى إطار ما كان يسمى بمشروع «كاليفورنيا القرم» متذرعا بان اللوبى المالى اليهودى يواصل الضغط عليه، فيما هدد بوقف برنامج «ليند- ليز» Lend Lease Act وهو البرنامج الامريكى الذى اقره الكونجرس فى مارس عام 1941 لتقديم الدعم الحربى والغذائى والمواد الخام ومواد الطاقة الى حلفاء الولاياتالمتحدة فى الحرب العالمية الثانية. وقال إنه هدده ايضا بان الولاياتالمتحدة قد لا تستطيع إزاء ذلك، فتح «الجبهة الثانية» ضد المانيا النازية للتخفيف من وطأة الهجمات الالمانية ضد القوات السوفيتية، وطالبه بضرورة استئناف ترحيل التتار من شبه جزيرة القرم. ومضى بولتورانين ليقول إن ستالين كان يدرك أن الضغط الامريكى لم يكن يستهدف مصالح اليهود السوفيت ممن كانوا يحاولون توطينهم فى القرم، بقدر ما كان يستهدف خدمة مصالح أمريكية جيوسياسية، الأمر الذى تطلب من ستالين أكبر قدر من الدهاء والمناورة. وفيما راح يبدى بعض تحفظاته ومنها ضرورة أن تكون الجمهورية اليهودية السوفيتية المرتقبة «جمهورية ذات حكم ذاتي» وليست جمهورية مستقلة، طالب ايضا بأن يتولى قيادة هذه الجمهورية لازار كاجانوفيتش اليهودى الاوكرانى الاصل ووزير الصناعة السوفيتية فيما بعد، وليس سولومون ميخيلسون رئيس اللجنة اليهودية السوفيتية المعادية للفاشية، علاوة على طلبه حول الحصول على قروض مالية تبلغ قيمتها عشرة مليارات دولار للمساهمة فى اعادة اقتصاد ما بعد الحرب. ومع ذلك فلم يتراجع الجانب الأمريكى اليهودى عن مساعيه، وهو ما دفع ستالين إلى التحول إلى البحث عن سبيل آخر للتخلص من هذه »الورطة« وجده فى إعلان مؤتمر بازل وفكرة توطين اليهود فى فلسطين وما تلا ذلك من استصدار وعد بلفور البريطانى فى عام 1917 . وما كاد الأمريكيون يبدأون فى مطالبة ستالين بسداد قيمة الصكوك المالية حتى صارحهم باستعداده لتنفيذ التزاماته تجاه إنشاء وطن قومى لليهود... لكن فى فلسطين معلنا عن موافقته على ترحيل أكبر قدر من اليهود الى هناك وتسليحهم بكل ما غنمه من أسلحة المانية جرى تقديمها خصما من ديون الاتحاد السوفيتى التى اقترضها من الوكالة اليهودية الامريكية. بل وأعطى تعليماته الى تشيكوسلوفاكيا وبلغاريا بإمداد اليهود فى فلسطين بكل ما يحتاجونه من اسلحة فى حربهم مع العرب هناك. ونذكر أنه كان أول من اعترف باسرائيل فور الاعلان عن قيامها فى مايو 1948. ومع ذلك فقد خشى ستالين أن تواصل الولاياتالمتحدة واللوبى اليهودى الاصرار على مواصلة الضغط واللجوء الى المحاكم الدولية لالزام الاتحاد السوفييتى بما سبق وتعهد به حول تسليم القرم التى كانوا يخططون لضمها ومعها مقاطعات كراسنودار التى تضم سوتشى وما جاورها من مدن تمتد على ساحل البحر الاسود حتى الحدود مع ابخازيا المتاخمة للحدود مع تركيا شرقا، وكذلك اراضى مقاطعتى اوديسا وخيرسون فى اوكرانيا غربا، بما يعنى عمليا عزل الاتحاد السوفيتى عن البحر الاسود، وسلبه اكبر قواعده البحرية فى سيفاستوبول جنوبى القرم. ولذا وكما تقول الوثائق قرر ستالين ورفاقه خروشوف وبولجانين ومولوتوف وكاجانوفيتش البحث عن سبيل قانونى يستبقون به أخطار المطالبة بتسليم القرم وفاء للديون الامريكية على روسيا السوفيتية، وجدوه فى تحويل تبعية القرم من روسيا الاتحادية الى أوكرانيا وهو ما فعله خروشوف بعد وفاة ستالين فى عام 1953. وللقصة فصول أخرى.