الباب القديم مُقشَّر ولا يبلغ الأرض، بل يترك مسافة تكفى لتسريب الصوت.. الصراخ الذى يترجَّع فى أذنيكِ مهددًا بانفجارهما. لأول مرة ترَين هذا القبح! عورة الخشب فى الباب المتهالك الذى استباحته كل كفٍ وتركت عليه عرَقها وبَصْمَتَها وغبار خلاياها! كيف لم تريها طيلة هذه السنوات!! تهبطين ببصرك نحو الأرض، ثم ترتقين أعلى الجدران.. كل شيء يثير اشمئزازك، تلتفتين نحو النافذة المشرعة.. هناك؛ على مدى الشوف تلمحين طفلة بثوبٍ منفوش، لَبنى اللون، تعدو فيهفهف شعرها فوق كتفيها ويسبقها نسمة رقيقة من عبق زهر النارنج؛ تبدو هذه الطفلة فى العمر الذى لا تُسعف فيه الذاكرة أحدًا ليقول: كان لى أبٌ طيب، أمٌ حنون، كنا نعيش فى بيت جميل، العمر الذى لا يحتفظ الذهن بصورة مؤكدة عنه، بل فقط هالة لَبنية.. ومسحة عَفرتة وشقاوة، يصفونه ب: «عمر الزهور»، وهو نفس عمر العيل الذى يوجعكِ صراخه الآتى من تحت الباب. الباب الآخر المُطل على الخرابة ليس مُقشرًا لكنه مصنوع من معدن صدئ، يظهر عنده الواد «حسونة»، بضحكته السمِجة المتقطعة بتناغم مع عرجة رجله.. ألفِتُ عينى للجهة المقابلة لكنه يبادرني: _ ده عيل من الجداد؟ فأومئ برأسي: نعم. يمسح عرقه بيده المعفرة ثم يمسد بها رِجله القصيرة، يمررها فوقها عدة مرات، ثم يجلس على طرف الدكة الآخر المقابل للطرف الذى أجلس عليه وبين سماعنا لصرختين يتساءل: _ بتاع قويسنا ولاّ شبين؟ أتنهد طويلا قبل أن أهمس: شبين. يمد يده مناوشا فى المساحة الفارغة بيننا وهو يضحك: _ ده أصلًا ماحدش سأل عليه. مزعّلة روحك ليه؟ همست وأنا أدفع يده القريبة من صدرى بعيدا: _ مش مزعّلة. أعاد يده إلى جنبه ثم مدها فى جيبه وأخرج عُقدًا من خرز لامع ملون، غمز بعينه «كأن بيننا سرا» ثم همس وهو يرفعه ليزغلل عينى: _ علَّقتهولك من مَرة إنما إيه! مُزة بنت أبالسة. شوفى. صحت وأنا أقلب شفتىّ وأُدير بؤبؤى عينى بعيدًا: _ بلا قرف. علت صرخة من وراء الباب بنفس لحظة قيامه واقترابه رافعًا العقد بمحاذاة عنقى هامسًا: _قرف يا هبلة! ده هيبقى عليكى لوز. ثم وهو يمد يده مجددا نحوي: هياكل منك حتة. _ مش عايزاه. صحت وأنا أرد يده محتدة. مُصر على الاقتراب، صرخة جديدة تتسرب من تحت الباب، والعقد يغشى عينى بسحر ألوانه وبريقه. يهمس صائحًا وهو يميل بقربى: _استنى بس. تراجعت وكدت أنزلق فوق البلاطة المكسورة، اهتاجت أعماقى غضبًا ولوحتُ له بقرن غزال اكتشفتُ فى تلك اللحظة أنى قابضة عليها منذ فترة لا أعلمها، لملم اندهاشه وشخر: _يا بت المهابيل. عليّ أنا؟ كان الصراخ قد توقف وتوقعت أن يظهر حسبو ويفتح الباب بين لحظة وأخرى، ويترك لنا العيِل الذى قطع رجله قبل لحظات لنداويه. سيوصينا بمداواة جيدة: _ بضمير. آه. علشان هناكل من وراه الشهد. مال حسونة حتى كاد يقع فانكشف الأثر القديم برِجله، وبدا مثل جِلدٍ سلخته الشمس، راح يحدق إلى نهدى ثم مد يده ليهبشه: _الوقتى أقول لحسبو وأخليه يقطعهولك. هههههه. غززت يده بقرن الغزال فتراجع متألمًا، لم أسمع بقية ماقاله، كانت إحدى عينيّ تتيه فى بريق خرزات العقد، فيما الأخرى تتابع قسمات الألم فى الوجه الطيب لرفيق السنوات الطويلة؛ فكرتُ بالعناء الذى تكبده لأجلى. ضحكَ فضحكتُ ثم خطفتُ العقد من يده وقفزتُ إلى الخارج، فقفز ورائى مقهقهًا. رحتُ أجرى وأجرى، قدر استطاعتى، أحاول اللحاق بالبنت المسبوقة بعبق زهر النارنج.. البنت التى لم يقطعوا رِجلها بعد.