فى زمن القلق الحضارى والتحديات الكبري، واهتزاز سلطة الدولة الوطنية، وتعبير الأقليات عن رغبتها فى استقلالٍ هو أقرب إلى الضياع، تجد الأمة العربية نفسها فى مواجهة حروب من أطراف شتي، منها ما هو خارجى على خلفيّة اقتصادية وسياسية وجيو استراتيجية، ومنها ما هو داخلى من قوى الظلامية والتطرف وحتى من أطراف تعتقد جازمة أنها تطرح أفكارا تنويرية لها أبعاد تغييرية وتخدم حقوق الإنسان، وتشى بتحقيق ديمقراطية بزغ نجمها عبر تجاوب مع تجارب دول العالم، حتى لو أوصلت إلى السلطة ممن هم على عداء دائم مع الديمقراطية، وليس أمام أمتنا من حل إلا أن تأوى إلى ركن شيء، وهو الثقاقة بكل أبعادها، وهو ما يظهر فى التَّجارب العربيَّة المضيئة، التى تشارك اليوم فى صناعة حواضر ثقافية جديدة على المستوى القومي، تتحمَّل مسئولية حماية العرب حضارياًّ بشكل دائم، أو إلى حين عودة العواصم الثقافية القديمة من جديد. لقد أثبتت العقود الستة الماضية أن الثقاقة العربية أشمل وأبقي، وهى الصامدة فى وجه التقلبات السياسية، إذْ ظلت هى الجامع الوحيد، بل إن الأقليات غير العربية بما فيها تلك التى تطالب بالانفصال او الاستقلال عن سلطة الدولة الوطنية المركزية هى بنات الثقافة العربية، وقد اتَّخذت منها تعبيرا وجدانيا، وتفكيرا عقلانيا، وتعايشا اجتماعيا، وإذا كانت قد واجهت ضيقا وجوديا، أو إبعادا سياسيا، فإن ذلك نتاج أنظمة جعلت الثقافة فى خدمة السياسة، ومساندة بعض عناصر النخبة لها لا يعنى أنها تلقى قبولاً من جميع النخب المثقفة فى الوطن العربي، وتلك الأقليات هى جزء من مجتمعات تعانى مظالم عامة، وليست مقصودة بها لذاتها. وعلى خلاف الفترات السابقة من عمر أمتنا، بما فى ذلك عقود ما بعد الاستقلال من القوى الاستعمارية، نلاحظ اليوم فى حالات خاصة، توظيف السياسة لخدمة الثقافة، والحالة الأكثر تميزاُ وظهوراً هى حالة دولة الإمارات العربية المتحدة، وخاصة إمارة الشارقة، كما تظهر جلياًّ فى علاقتها الحاضرة والمستقبليّة مع الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، ففى عشرين من شهر سبتمبر الماضى أعلن صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمى عضو المجلس الاعلى حاكم الشارقة تكفله بتأسيس مقر دائم للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب ليكون مقراً للتواصل وحاضناً لأنشطته الثقافية المتنوعة، ولدعم مسيرته الأدبية وانتاجه الثقافي. من ناحية أخرى فقد خصَّص الدكتور سلطان القاسمى وديعة احتياطية تدعم من يتعثر من الأدباء والكتاب العرب لتمد يد العون لهم وتساعدهم للاستمرار مع السفينة الثقافية بما يحملونه من فكر وثقافة، مشيراً سموه إلى أهمية تواصل النشاط الثقافى ودعمه لضمان ديمومته وتقدمه ليواجه الحملات الفكرية المضادة والشرسة على الأمة العربية وثقافتها، كما وجه بإقامة مؤتمر«الأدب العربى والعالم» الذى يجتمع كل سنتين ليناقش نتائج العمل الثقافى والأدبى التنموى الذى يقام فى مختلف أقطار الوطن العربى ليمكن الأدباء من معرفة مستوى التقدم فى العمل الثقافي، ويسهم فى تحفيز الجميع للاستمرار على طريق الطموح الثقافى وتدعيمه، ومن مهام هذا المؤتمر أيضا الانفتاح على العالم الغربي. وإذا كان التَّكفُّل بانشاء مقر دائم للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب وتمويل نشاطاته، يعدُّ منجزاً مهما بكل المقاييس، ويحقق حماية ورعاية للعمل الثقافى العربي، وينهى رحلة وربما ضياع أرشيف الاتحاد ووثائقه بين القاهرة وبغداد ودمشق، ثم القاهرة من جديد، واخيرا أبوظبي، فإن رؤية الدكتور القاسمى للثقافة من حيث هى جامع ومغير وحافظ لمنظومة القيم، جديرة بالاهتمام والمتابعة، خاصة أنه يواصل تمسكه بالمجال الثقافى فى ظل الظروف المتغيرة, وهو ما تشكف عنه مسيرة الشارقة الثقافية المتنوعة التى بدأت بالعديد من المجالات الثقافية مثل الشعر والمسرح والنشر وغيرها، لتصل إلى مستوى كبير حصدت من خلاله الجوائز والألقاب، ثم زرع ما سماه بذرة الخير من خلال مبادرة بيوت الشعر فى أقطار الوطن العربى من أجل التواصل مع المثقفين، وإقامة الأنشطة الشعرية والحفاظ على الموروث الثقافى العربى فى بلدانهم. فى تجربة الشارقة تتحرك الثقافة العربية ضمن عدد من الفضاءات، ومنها الفضاء الافريقي، وذلك لأهمية العلاقات بين العرب والأفارقة جغرافيا وإنسانيا وتاريخيا وحضاريا، ولهذا سيتم افتتاح معهد الدراسات الإفريقية فى الشارقة على غرار معهد الدراسات فى الخرطوم، وسيضم جميع الدراسات الإفريقية من جنوبها إلى شمالها، وسيوفر منحا إفريقية للدراسات فى الخارج، كما ستفتتح قاعة إفريقيا مرة أخري. ومصر فى كل هذا حاضرة، ليس فقط من خلال التأسيس التاريخى والقانونى للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، ولكنها أيضا مشاركة اليوم على مستوى صناعة الفعل الثقافى العربي، فأول مؤتمر دولى يركز على حوارنا مع العالم بدعم من الدكتور سلطان القاسمي، سيكون حول الروائى الكبير نجيب محفوظ، وذلك بمشاركة عملاقة الأدب على المستوى العالمي، وذلك فى فبراير المقبل فى القاهرة، وهذا يعنى أننا أمة تستحق البقاء مادامت قوتها فى ثقافتها، واختيار نجيب محفوظ رحمه الله يعنى الوجه الثقافى العربى المميز، الذى تقدمه مصر وستظل.. وجه فرض وجود هذه الأمة على المستوى العالمي. لمزيد من مقالات خالد عمر بن ققه;