من أن لاخر تهب علينا هجمة شرسة مقصدها تشويه التاريخ الذى رسخ فى أذهاننا منذ نعومة أظافرنا عندما كنا فى المرحلة الابتدائية وعمرنا لا يتجاوز الحادية عشرة سنة وكان مدرس التاريخ يلقنّا ليعلمنا ان مصر فرعونية ذات اقدم حضارة تصل لاكثر من 7 ألاف عام وكيفية نشر الاسلام والحفاظ على المسيحية ودور البطل صلاح الدين الايوبى الذين انتصر على الصلبيين فى معركة حطين ودور سيف الدين قطز الذى انتصر على المغول ودور الابطال سعد زغلول ومصطفى كامل واحمد عرابى وعبد الناصر والسادات فى محاربة العدوان ورسخت الصورة التاريخية فى اذهاننا عن بطولات هؤلاء الاشخاص وغيرهم الذين هبوا للدفاع عن الوطن . ومع كبر السن ونضج عقلية الانسان وكثرة القراءة والاطلاع تتوسع مداركنا ويتحصل المرء على معلومات أكثر وأهم مما تعلمه فى المراحل الدراسية لمجرد أنه حفظها ليفرغها فقط على ورقة الامتحان ليرصد أعلى الدرجات وعندما نقرأ التاريخ في الكتب والروايات ونطلع على ما فيها من أحداث نتسائل في عدة محطات منها هل هذا فعلا ما حدث ؟ أم أن هذه الأحداث خضعت لميول وطبيعة وعقل المؤرخ وشخصيته وانحيازه لأحد الأطراف على حساب أطراف أخرى. فقد قرأت أنّ المنتصر هو من يكتب التاريخ. وهذه المقولة إلى حد ما حقيقية بل أقرب إلى الصدق. فخلال الفترات الماضية كان من ينتصر في معركة أو حرب أو منافسة حزبية مثلا ، هو الذي يدون في كتب التاريخ ما يريد من أحداث وبيانات ومعلومات وربما لا يقتصر ذلك على كتب التاريخ فقط لكنه أيضا يضمن ذلك في المقررات الدراسية الذي يدرسها التلاميذ في المدارس والجامعات، في حين يُغفل عمداً معلومات أخرى ذات أهمية وقيمة في اكتمال الصورة بشأن الحدث مثل أن هارون الرشيد كان زير نساء ليس له هم الا المتعة والجوارى ، ويغفلون ان الخليفة هارون الرشيد الخليفة الورع التقى الذى تسيل عبراته عند سماع الموعظة والمجاهد امضى معظم حياته بين حج وغزو فكان يحج عاما ويغزو عاما وانه اول خليفة عباسى قاد الغزو بنفسه وهزم الروم ووصل الى القسطنطينية وكان يصلى فى اليوم مائة ركعة ويطوف بنفسه فى الاسواق والمجالس متنكرا ليعرف ما يدورفيها ويعتبر عصره العصر الاسلامى الذهبى ويسجلون ان المماليك ما هم الا مجموعة من الخدم كان جل همهم الصراع على الحكم ويتعمدون إغفال ان المماليك هم من صدوا أكبر خطر على الاسلام وهم المغول وانتصروا عليهم فى عين جالوت بقيادة السلطان المملوكى سيف الدين قطز ويظهرون انّ الدولة الآموية أول من ورثت الحكم وكانوا يتصارعون عليه ويتجاهلون عمدا ان الامويين نشروا الإسلام فى معظم دول العالم حتى امتد من الصين شرقا الى الاندلس غربا ويكتبون أنّ الدولة العثمانية كانت ضعيفة وما يشيروا الى انها حافظت على الاسلام وقضت على الدولة البيزنطية ، اعتى امبراطورية صليبية فى العالم وحكمت الدولة العثمانية نصف اوروبا ونشرت الاسلام فيه وفتحت القسطنطينية عاصمة الارثوذكسية عام 1453م ودخلت ضمن الدولة الاسلامية وساعدت مسلمى الاندلس فى نكبتهم ويركزوا فى التاريخ على ان فرنسا عندما افتتحت مصر جاءت بالحضارة والمدنية ولم يركزوا على ان نابليون بونابرت دنس الازهر الشريف بخيوله وغيرها كثير وترتيبا على ذلك فالتاريخ دائما يكتبه المنتصر ليروج فيه لنفسه ولانتصاراته ويبرز إنجازاته ويقلل فيه من قيمة خصمه ، واحيانا لا تظهر هذه الحقائق إلا بعد ذهاب صاحبها، وهذا يذكرنا بالمقولة الشهيرة إن التاريخ الحقيقي لا يظهر إلا بعد زوال صاحبه وفي تاريخنا المعاصر حدثت حروب وأحداث جسام تمثل جزءاً مهماً من تاريخ مصر و العرب، والعلاقات فيما بينهم، فمثلا في العراق قامت الحكومة بشطب الكثير من أحداث عهد صدام حسين وأيام الاحتلال الأمريكي من مناهج التاريخ الذي يدرس للتلاميذ. فهل هذا هو تاريخ العراق الذي يعرفه العالم كله ؟ ويظل السؤال قائماً من يكتب التاريخ ؟ وفي مصر تحدثت كل كتب التاريخ عن الملك فاروق بأنه لم يكن حريصا على وطنه وأنه فرط في حقوق مصر لصالح الانجليز. ومجدت هذه الكتب ثورة يولية 1952، التي أنهت الظلم وحررت الشعب ولكن بعد أربعين عاما ظهرت مواقف جديدة تقول إن لديها حقائق كثيرة وأورد بعض المؤرخين أن الملك فاروق لم يكن سيئا كما تذكره معظم كتب التاريخ بل كان محبا لوطنه وأن رجال الثورة كان فيهم من الفساد المالي والاداري الكثير. وهنا تطرح مسألة كتابة التاريخ العديد من التساؤلات التي تتأرجح بين حقيقة ما كتب وسيكتب. فقد يكون جزء كبير من التاريخ الذي نقرأه اليوم صحيحا وقد لا يكون لأن كتب التاريخ تخضع لانحياز الكاتب لجهة معينة او للأيدلوجيا التي يحملها. ويقودنا هذا إلى مسألة الموضوعية والتجرّد وإلى أن يفرّق المؤرخ بين التاريخ والدعاية ، فإن كتابة التاريخ تستدعي الموضوعية والدقة والسعي إلى الإستفادة من مجرياته لا من وجهة نظر طائفة أو جماعة معينة لاننا للاسف في أحيان كثيرة نهمل الروابط التي تشدنا إلى تواريخ الأمم والشعوب الأخرى متناسين تشابك تاريخ البشرية وأكثر اسفا انه ليس هناك اهتمام وإيمان بتوثيق الأحداث التاريخية في الدول العربية. فعند كتابة التاريخ يلجأ أغلب المؤرخين الى ما كتبه المستشرقون وبعض الأحيان إلى الأرشيفات الاجنبية وهذه مصيبة أكبر ودليل أخر على ذلك أحداث ما بات يعرف ب "الربيع العربي" في تونس ومصروليبيا واليمن وسورية،التى كشفت ما هو مستور طوال هذه السنين، وتبينت لشعوب هذه الدول وخارجها حقائق مريرة كان البعض يعرفها و البعض الآخر، كانوا يجهلونها. فمن كان يدري عن ثروات زعماء هذه الدول؟ ومن كان يعلم بالأدوار التي كانوا يمارسونها ضد مصالح شعوبهم؟ فهل نجد من يوثق ذلك التاريخ بأمانة للاجيال المتعاقبة ؟ فكتابة التاريخ الذى يمثل مرآة للصراعات البشرية بكل اشكالها، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية، ورغم انه علم إنساني اجتماعي،وليس بعلم دقيق الا ان له اهمية كبرى وتأثير قوى في تشكيل الهوية، وحفظ كيان المجتمع، وتوثيق أحداثه ، فالتاريخ مصدر إلهام الشعوب التي تعيش حاضرها وليس ماضيها، وتعتز الأمم المتحضرة بماضيها بسلبياته وإيجابياته لأنه يمثل صفحة تاريخية طواها الزمان واعتقد انه على كاتب التاريخ ان يعتمد على نفسه فى تحرى دقة المعلومة الصحيحة لانه سيواجه عند كتابة التاريخ بمؤيدين يلونون الأحداث باللون الذي يروق لهم ومعارضين ينهالون باللوم والنقد على من كانوا قائمين وقتها بأمور الحكم كما ان عليه أن يكون بعيداً عن الأحداث حتى ينظر إليها بمنظار محايد، ويستطيع أن يحكم عليها حكماً صحيحاً، وطبعا لا مفر في جميع الأحوال من الرجوع إلى الكتب والوثائق والمجلات والجرائد التي تناولت الواقعة في حينها لمحاولة استخلاص الواقعة الأقرب إلى الصواب ويا حبذا لو تنشأ هيئة تضم الخبراء والثقات المحايدين المتجردين بقدر الإمكان، حتى تأتي كلمة التاريخ أقرب إلى الحقيقة منها إلى السراب.! لمزيد من مقالات سعاد طنطاوى;