تطورات ثلاثة لملفات هامة في الشرق الأوسط رسخت ما هو ظاهر: أمريكا تعاني من أجل بلورة سياسة خارجية متسقة ومتكاملة حيال المنطقة وأزماتها. فمن العراق إلى سوريا، مروراً بإيران ظهرت محدودية الخيارات الأمريكية وصعوبتها. فتطورات المنطقة منذ الغزو الأمريكي للعراق 2003، خلقت وقائع جديدة ولاعبين جددا. واليوم كما يقول السياسي الأمريكي المخضرم ومبعوث السلام السابق للمنطقة دنيس روس في حوار مع «الأهرام»: «تواجه أمريكا تحدي تراجع نفوذها في الشرق الأوسط»، بسبب سياسة حذرة تقوم على«تفادي المنزلقات». فهناك تباينات وضعف هيكلي وعدم انسجام في السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط. فمن ناحية تحارب أمريكا «داعش»، بتنسيق مع إيران وحلفائها على جبهات العراقوسوريا. لكن من ناحية أخرى، ليس لدى إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إستراتيجية للمنطقة لما بعد داعش. كما أنه ليس لديها إستراتيجية واضحة لإيران. أما سياساتها في العراق فظهرت تناقضاتها على نحو جلي خلال الأيام الماضية مع الاستنفار بين الجيش العراقي وقوات البشمركة الكردية. وعلى الساحة السورية، ليس لدى واشنطن خطة لما بعد داعش. أما أفكارها حول سلام الشرق الأوسط فما زالت غير واضحة. هذا التذبذب ترك حلفاء واشنطن التقليديين، من العراق إلى سوريا مروراً بالخليج، أكثر ضعفاً، ووسط حسابات معقدة. ويقر دنيس روس، الذي عمل في خمس إدارات أمريكية كان آخرها مستشارا خاصا للرئيس السابق باراك أوباما: «نعم ليس لدينا سياسة خارجية واضحة للشرق الأوسط. وجزء من هذا يعود إلى الحروب التي خاضتها الولاياتالمتحدة في المنطقة. هناك تعب أمريكي رسمي وشعبي من المنطقة. وأوباما عكس هذا التعب. كان تركيزه على تكلفة التدخل في قضايا المنطقة. ففي سوريا كان يتخوف من إعادة إنتاج ما حدث في العراق. كان حذراً من منحدرات الشرق الأوسط الزلقة. لقد شعر أن أزمات المنطقة مثل وباء، والتدخل الأمريكي فيها لا يزيدها إلا سوءاً.وبالتالي اعتمد سياسة خارجية تتميز بتجنب وتفادي المنزلقات. انفجار الورقة الكردية خلال السنوات الماضية، لعبت أمريكا بالورقة الكردية من أجل تحقيق مكاسب على الأرض ضد «داعش» في سورياوالعراق. وفي هذا الإطار أعطت واشنطن الكثير من الوعود وغذت طموحات بعضها غير واقعي ويهدد وحدة أراضي دول المنطقة. وجاءت لحظة الاختبار في سياق التصعيد العراقي -الكردي على خلفية استفتاء استقلال كردستان. فقد فشلت أمريكا في إقناع رئيس إقليم كردستان العراق مسعود بارزاني بوقف الأستفتاء. ولم تستطع أن تنهى الاستنفار العسكري بين قوات الجيش العراقي، الذي سلحته ودربته واشنطن، وقوات البشمركة، التي حاربت بدعم أمريكي «داعش» في العراق. وخلال الأزمة ظهر ترامب عاجزاً بإعلانه أن بلاده «لا تنحاز لأي طرف». ويقول دنيس روس إن تحدي الأكراد للضغوط الأمريكية الكبيرة عليهم لوقف الاستفتاء، ومخاطر إندلاع مواجهة بين الجيش العراقي وقوات البشمركة «يكشف تناقضات السياسة الأمريكية». وفيما كان بارزاني يدفع ثمن الاعتماد المبالغ فيه على أمريكا، كان أكراد سوريا يحتفلون بعد طرد «داعش» من الرقة. لكن هذه الاحتفالات قد تكون أيضاً قصيرة الأمد. فأمريكا الحليف الرئيسي للأكراد في سوريا. ليست لديها إستراتيجية في سوريا بخلاف هزيمة «داعش». ويعتقد الكثيرون أنه ربما فات الأوان لأى انخراط أمريكي مُجد في المشهد السوري. ويوضح دنيس روس «روسيا هي الفاعل الأهم في سوريا...وزيارات المسئولين الدوليين والإقليميين المعنيين والمنخرطين في الأزمة السورية تمر بموسكو أكثر مما تمر بواشنطن». فترامب تحدث قليلاً جداً عن سوريا منذ وصل للسلطة، ولم يذكر أبداً أي إستراتيجية للتعامل مع الأزمة، وترك التفكير الإستراتيجي لروسياوإيران، حيث باتت القوتين الأكثر تأثيراً في الملف السوري. وبدلاً من أن يكون قتال «داعش» منصة إنطلاق يمكن استغلالها لتقارب محتمل، بين الأطراف المتضادة، حدث العكس. ويوضح روس: «نعم هناك عدو مشترك (مع إيران) وهو داعش. لكن هدف طهران الرئيسي هو إنهاء النفوذ الأمريكي في المنطقة. فإيران تعد نفسها لملء الفراغ في سوريا بعد هزيمة داعش. وليس من المعروف بعد ما هي إستراتيجية ترامب لمواجهة هذا التحدي. لكن يبدو أن الإدارة الأمريكية لم تطور إستراتيجية لما بعد داعش،أو إستراتيجية لمواجهة ملء إيران الفراغ الذي سيتركه داعش بعد هزيمته. لكن في المقابل، إيران والجماعات الشيعية المتحالفة معها تخلق حقائق جديدة على الأرض». تحركات حذرة نحو السلام ومن موقعه الضعيف في ملفات إقليمية عدة، لا يضع ترامب سياسات «بل يحاول خلخلة السياسات الموجودة التي يرفضها». وموقف إدارته من الاتفاق النووي دليل على هذا، فعوضاً عن سياسة واضحة المعالم حيال إيران، سعى لخلخلة الاتفاق النووي عبر رفض التصديق عليه، ما حمل ضمناً رسالة مفادها «واشنطن لا تفي باتفاقياتها الدولية». فمنذ تولى ترامب السلطة، انسحبت أمريكا من منظمة اليونسكو ومن اتفاقية المناخ ومن اتفاقية التجارة الحرة عبر الباسفيك وتهدد بالانسحاب من النافتا. وعدم التصديق على الاتفاق النووي جعل واشنطن معزولة دوليا في هذا الملف أيضاً. ويقول دنيس روس «أعتقد أنه يجب إبقاء الاتفاق النووي، ومعالجة نواحي القصور فيه. الأوروبيون يقولون إنهم لن يعيدوا التفاوض حول الاتفاق النووي. وبالتالي يصبح السؤال هل يمكن تطبيق ما اقترحه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون وهو التفاوض على ترتيبات مكملة تعالج قضايا أخرى محل قلق دون تعريض الاتفاق النووي للخطر؟». لكن هذا يحتاج إلى حوار مع طهران. وتصرفات ترامب لا تشجع الإيرانيين على الحوار معه. وكما يلاحظ روس ليس هناك قنوات مفتوحة أصلاً للحوار. ويوضح: «لقد قطعت إدارة ترامب قنوات الاتصال مع إيران. وأتمنى لو لم تفعل هذا. كان يجب أن تكون لدينا وسائل تواصل مع الإيرانيين. هذا إرث من إدارة أوباما كان يجب الحفاظ عليه». ومع وضع مصير الاتفاق النووي في يده، سيكون أمام الكونجرس خيارات محدودة، يوضحها روس بقوله: «من غير المحتمل أن يلغي الكونجرس الاتفاق. سيحاول إضافة ترتيبات مُكملة تتضمن تشدداً ضد إيران لإرضاء ترامب بما يكفي لعدم قتل الاتفاق». خلال حملته الانتخابية، لطالما تباهي «رجل الأعمال ترامب» بقدرته على عقد الاتفاقيات. لكن «الرئيس ترامب» لم يعقد منذ وصل للسلطة أي اتفاقيات، بل خرج من اتفاقيات. وفي منطقة مثل الشرق الأوسط، فإن هذا قد يكون مكلفا جداً. وحتى صفقة سلام الشرق الاوسط، التي يحلم بتحقيقها، لم تتحرك واشنطن جدياً فيها. فباستثناء المصالحة الفلسطينية التي تمت بوساطة مصرية ليس هناك أي اختراق. وفي نظر روس فإن المصالحة تدعو للتفاؤل الحذر. ويوضح:»لقد شاهدت 10 اتفاقيات مصالحة فلسطينية، كلها فشلت في النهاية. السؤال هو هل هناك سياقات مختلفة الآن. الإجابة هي نعم. هناك تطوران جديدان. أولاً الدور المصري كان مكثفاً ومتواصلاً. ثانياً تشعر قيادة حماس أن عليها الاستجابة للمشاكل الاقتصادية التي تواجه الفلسطينيين لانها تؤثر على صورتها. اعتقد أن هذين عاملان جديدان. لكن هناك أشياء لم تتغير. فالسلطة الوطنية الفلسطينية يمكن أن تعود لحكم غزة، لكن تبقى الأسلحة بيد فصائل عز الدين القسام (الجناح العسكري لحماس). مشكلة هذا أن حماس عندما تقرر أنها لا تريد مواصلة ترتيبات المصالحة مع السلطة الفلسطينية، ستفعل ما فعلته 2007، ستنقلب على السلطة طالما لديها الأسلحة». لم تنخرط أمريكا في ملف السلام بشكل كامل بعد. لكن عندما تنخرط سيكون السؤال هل تريد واشنطن التوسط لتحقيق سلام دائم وعادل، أم لضمان أمن أسرائيل بالأساس ودفع الفلسطينيين والعرب نحو المزيد من التنازلات؟ فالتباينات وضعف الإستراتيجية ماثلة في هذا الملف مثلما هي ماثلة في الملفات الأخرى.