من ينظر إلي مصر وهو جالس في الطائرة حين تهبط إلي أرضنا الغالية يشعر بأنه يدخل في حالة من العشق الخاص لهذه الأرض، فنسمات الهواء تحمل عبقا من حضارة وغني روحي. وبنظرة خاطفة فوق أرضنا يستطيع العابر أن يشعر بكم الغني الذي تحمله هذه الأرض، أهرامات، ومعابد حضارية، كنائس ومساجد عريقة، ونهر النيل يتحرك بقوة وصمود يشق صخور، وصحراء يحولها إلي أودية. فكل بقعة في بلادنا تحمل غني تاريخيا وإمكانيات اقتصادية. ويبقي السؤال إذا كنا نحمل كل هذا العمق والغني فلماذا نعاني؟ ولماذا ندخل في أزمات متوالية عشرات بل مئات السنين؟ وأنا أري أن مشكلتنا الحقيقية في الإدارة. فالبلاد التي استطاعت أن تخطو خطوات كبيرة في النمو ومواجهة مشكلاتها نجحت بمنظومة متكاملة للإدارة، فلا يمكن أن ينجح بلد يوجد به فساد إداري، والفساد الإداري لا يتمثل فقط في نظافة اليد ولكنه يتمثل أيضا في بعض العناصر المهمة: أولا: الاستنارة: والاستنارة تبدأ من التكوين الشخصي والعقلي، ففي جمهورية أفلاطون المثالية كان يضع طبقة الحكام والذين يديرون الدولة من الفلاسفة والمفكرين. وإن كان هذا قد يكون صعبا أن نجد فلاسفة في كل السلم الإداري ولكنه لابد أن يكونوا علي الأقل مثقفين. فكيف يمكن لشخص يدير منظومة حتي وإن كانت صغيرة وهو لا يعرف تاريخ بلاده أو حضارته أو أسس المنطق والتفكير السليم. فنحن نعاني كثيرا من إدارات تتسم بضيق الأفق والتعصب بل والجهل أحيانا. والتاريخ يحكي لنا عن تأثير الفكر والمفكرين في نهضة شعوبهم، فقبل أي ثورة سياسية كان تسبقها ثورة فكرية والعكس حقيقي، أي إنجاز سياسي لا يسبقه أو يواكبه حالة استنارة علي كل المستويات تفشل. فحين أراد محمد علي أن يبني دولته الحديثة ولم يكن يملك إمكانيات التغيير الفكري والثقافي في مصر أرسل إلي الخارج من يتعلمون الحضارة والفكر والثقافة ثم أعادهم ليقودوا التغيير في المجتمع علي كل المستويات. وفي أوروبا قبل عصر ثورات الحرية عبرت عليهم عصور ظلام واستبداد وجهل ولم تدرك شعوبهم معاني الحرية. ولم يتغير المجتمع وتنهض أوروبا إلا علي أيدي المفكرين والمثقفين، وحين أتيحت لهم فرصة القيادة والإدارة للمجتمع انهزمت ظلال الجهل ولاح الفجر لتتنسم الشعوب نسمات الحرية، وكانت قوة أوروبا الحديثة. فقد نجح المفكرون ودعاة التنوير في العبور بالمجتمع إلي عصور النهضة. ففي القرن السابع العشر تصاعدت الخلافات بين تشارلز الأول ملك إنجلترا والبرلمان وأعدم الملك. وتأرجح عرش إنجلترا حين اعتنق ريتشارد الملك المذهب الكاثوليكي وهو علي فراش المرض قبل الموت، ولم يكن الشعب الإنجليزي قادرا علي استيعاب الحرية الدينية والعقيدية وهذا تحت تأثير قوي الظلام، فبدأت صراعات سياسية وشعبية في القصر بين التيار البروتستانتي الذي يمثل العقيدة الرسمية للمملكة وبين المذهب الكاثوليكي الذي اعتنقه ريتشارد قبل موته. وحين جلس الملك جيمس الثاني أصدر وثيقة تبيح حرية العقيدة وثارت عليه قوي الظلام حتي إنه ذهب إلي فرنسا وعاش بقية حياته هاربا. ولكن ما فشل فيه جيمس الثاني نجح فيه المفكرون حين نشروا الوعي والثقافة فاستنارت العقول وقبلت التعددية وحرية الآخر. ففي بداية القرن الثامن عشر ظهر مفكر مهم جدا اسمه «جون لوك» درس الفلسفة والطب ولعب دورا مهما في سياسة إنجلترا، وبدأ يكتب وينادي ببناء العقل الإنساني وكيف يتحرر من الظلام والعبودية وكتب عبارة مشهورة: «إذا سألك أحد متي بدأت تفكر؟ فيجب أن تقول له عندما بدأت أشعر». وكان هو الأب الروحي والفكري الذي تتلمذ علي يديه «فولتير» الذي نادي بحرية العقيدة والفكر وقال: «قد اختلف معك في الرأي ولكني مستعد أن أقدم حياتي لكي تعبر عن رأيك». و«مونتسكيه» صاحب نظرية الفصل بين السلطات، و«جان جاك روسو» صاحب نظرية العقد الاجتماعي. بل كانت هذه الأفكار هي أساس وثيقة الاستقلال والحرية لأمريكا حين أعلنت استقلالها. وكانت نتيجة هذه الكتيبة الفكرية أن استنارت أوروبا وعبرت من مرحلة الهمجية الشعبية والانغلاق الفكري والحضاري إلي نهضة شاملة، فأبدع المفكرون واخترع العلماء ونهض الاقتصاد وصارت أوروبا قائدة التنوير في ذلك العصر. فحيث يوجد النور لا يمكن أن تستمر الظلمة، فالنور والظلمة إذن مسئولية هؤلاء الذين يقودون المجتمعات والشعوب، فإما أن يحملوا النور ويقودوا مرحلة التنوير فيعبر المجتمع من الظلمة والجهل إلي النور والاستنارة أو أن يسمحوا لقوي الظلام أن تقود المجتمع فتغلق العقول وتموت الحرية داخل النفوس وتختنق الأرواح من حالة الفساد الإداري. فنحن في مرحلة فارقة جدا في تاريخنا فقد ورثنا صورة مجتمعية متهلهلة، كانت قنوات الفكر مفتوحة لكل قوي الظلام فانتشر التطرف وكل الأفكار الهدامة للمجتمعات. وواكب هذا حالة من عدم الوعي, فترك الشعب لكل ذئب ينهش في عقله ويدمر حضارة بلاده. وأفقنا جميعا علي كارثة وهي تسليم بلادنا إلي فاشية دينية استطاعت التغلغل في كل مفاصل المجتمع. ثم ثار الشعب بفطرته الحضارية وفطنته البسيطة في الثلاثين من يونيو. واستطاع الرئيس بالشعب أن يخرج المصريين من تلك الوحوش التي خططت وتحالفت مع قوي أخري لهدم المجتمع وتغيير هويته. ويسعي الرئيس للعبور بسرعة شديدة من حالة السقوط الاقتصادي والاجتماعي ولكن هذا يحتاج أيضا إلي كتيبة التنويريين الذين يغيرون الفكر والثقافة والتعليم لينهضوا بالمجتمع ويحتلوا أماكن القيادة في كل مفاصل الدولة حتي تتحقق أهداف ثورة الثلاثين من يونيو، وهي مصر في صورتها الحضارية التي ترفض التطرف في الداخل والهيمنة من الخارج. كاهن كنيسة المغارة الشهيرة بأبى سرجة الأثرية لمزيد من مقالات القمص أنجيلوس جرجس