لم تعد معاجم المصطلحات فى مختلف مجالات المعرفة ذات حدود صارمة، فالمؤرخ وعالم الاجتماع والمشتغلون فى الحفريات المعرفية او ما يسمى الاركيولوجيا يستعيرون كثيرا من المصطلحات من الطب والفيزياء، فالأنيميا او ضعف المناعة قد توصف بها مجتمعات متعثرة النمو وليس افرادا فقط، وكذلك الكتلة او المسافة الحرجة ونظرية الاحتمالات قد يتم تهجيرها من الفيزياء الى التاريخ، وقبل ان احدد ما أعنيه بعبقرية التمصير لا بد من الإشارة الى ان مصطلحات من طراز عُسر الهضم الديموغرافى او نقيضها وهو القدرة على الامتصاص والتمثل هى من صميم حضارات منها ما له مفاعيل وديناميات جاذبة وحاضنة ومنها الطارد، واذا كان العالم د. جمال حمدان صاحب الكتب المهمة والتى لا تنتهى صلاحيتها عند مرحلة ما مثل شخصية مصر وعبقرية المكان واستراتيجية الاستعمار والتحرير قد تحدث بإسهاب مشحون بالحدس عن نفوذ الجغرافيا التى توجه بوصلة التاريخ بحيث تصبح الجغرافيا تاريخا اصابه التخثر وتحول الى تضاريس صلبة فإن ما اعنيه بعبقرية التمصير هو بشكل او بآخر استكمال لتلك الرؤي، اذ نادرا ما نجد مجتمعا يمتلك من ديناميات الامتصاص والدمج والقدرة على الهضم والتمثل ما امتلكته مصر عبر مختلف مراحل تاريخها، ولو اقتصرنا على أمثلة من التاريخ المعاصر نجد ان القدرة على الجذب وبالتالى التمصير هى من صميم القوة الناعمة بالمعنى الذى تحدث عنه الكاتب الامريكى جوزيف ناى، ومن تلك الامثلة نماذج من كل الشرائح الاجتماعية بدءا من المثقف والفنان وليس انتهاء بالسياسى الحالم بالتغيير، فكيف اصبح المهاجر من الشام الى مصر فى القرن التاسع عشر فرارا من التتريك فى زمن العثمنة مصريا بأشواقه ومكونات وعيه واخيرا فى احلامه؟ واسماء مثل جورجى زيدان والاخوين تقلا وابوخليل القبانى والقرداحى وفؤاد حداد والكواكبى وعشرات غيرهم لم تكن مصر بالنسبة اليهم منفى قسريا اذ سرعان ما وجدوا فيها الرّافعة الحضارية والتربة الخصبة التى تتيح لهم التعبير عن انفسهم وعن ما يحلمون به من ريادة فى التنوير والتثوير معا. التنوير قدر تعلقه بالصراع داخل امبراطورية ارتدت العمامة ووظفت الدين لمصلحة هويتها القومية ثم بلغت خريفها وتآكلت وانتهت على مائدة التقسيم، والتثوير بمعنى رفض الواقع الذى أسهمت فى صياغته قوى طامعة تمددت بحثا عن مجالات حيوية ومناجم واسواق اضافة الى التخلف الذى تفاقم خلال بضعة قرون من الإخضاع القومى باسم الايديولوجيا. حتى هؤلاء الذين وفدوا الى مصر من اوروبا سواء على سفن حربية او بذريعة الاستشراق منهم من هضمته الحضارة المصرية من خلال تلك الكيمياء شبه السحرية التى تدمج وتذيب وتعيد الانتاج، وهنا نتذكر ذلك البارون البلجيكى الذى لعب دورا عمرانيا وحداثيا الى حدّ كبير فى مصر الجديدة قبل اكثر من قرن او ذلك الفنان النمساوى الذى اصبح مصريا بكامل مكوناته ولغته ومزاجه النفسى وهو استيفان روستي، وقد يفاجأ القاريء اذا عرف ان الفنانة شويكار التى استكملت مصريتها كحفيدة للفراعنة من اب تركى وام شركسية، كما ان واحدا من اشهرشوارع القاهرة وهو سليمان باشا يحمل اسم رجل فرنسى غيّر اسمه واصبح مصريا برغبته وليس رغما عنه ! ولا ننسى فى هذا السياق الراحل فريد الاطرش وشقيقته اسمهان فهما مصريان بالروح والذاكرة والحلم، لهذا كانت وصية فريد الاطرش ان يدفن فى مصر، تماما كما دفن فى ثراها صاحب طبائع الاستبداد والرائد النهضوى عبد الرحمن الكواكبي. وهناك بالمقابل مجتمعات ذات ديناميات سالبة وطاردة، بحيث تصاب بالاختناق والغثيان من كل طاريء خصوصا اذا حاولت ابتلاع ما يفوق قدرتها على الهضم تماما كافعى البوا التى كتب عنها الفيلسوف الفرنسى سارترمقالة اراد بها ان يقول: إن الفنان الخالد بابلو بيكاسو كان عسيرا على الهضم فى منفاه، لهذا حين تختنق البوا بما لا تقوى عليه تلفظه!. والتمصير ليس مرادفا للأمركة او التعجيم او التفريس والتتريك لأنه يحدث بسلاسة وباختيار الوافد لا رغما عنه، وهذا هو الفارق بين القوة الناعمة حسب تعبير جوزيف ناى التى اسلحتها كتاب وخشبة مسرح وسينما واطلال تروى حكايات ألفيات من السنين وبين القوة الاسبارطية الخشنة التى تسعى الى السطو وابادة الهوية. وعبقرية التمصير تتغذى مما سماه الراحل الكبير د. جمال حمدان عبقرية المكان، فالوافد الى مصر لا يشعر بالاغتراب لأسباب فى مقدمتها ان المجتمعات التى لا تخشى الوافد حتى لو كان غازيا تمتلك من فائض الثقة بالنفس والتاريخ والثقافة ما يشكل لها دفاعات باسلة لتأكدها من ان الوافد لا يشكل خطرا عليها بل هو لائذ بها وراغب فى التماهى معها، لهذا ايضا لا تذكر هذه المجتمعات الغريب فى كل لحظة باغترابه او بكونه غير مرغوب فيه، بل تتسع له وتهضمه وتعيد انتاجه على غرارها ووفق كيميائها، وما حققته مصر بالقوة الناعمة على الاقل فى العالم العربى والاقليم لم تحققه دول اخرى حاولت بث ثقافتها وجاءت على الاساطيل او استخدمت الخوازيق وحبال المشانق لفرض الهيمنة والتخلى عن الهوية القومية. وقد نكون جميعا الآن بأمس الحاجة الى قراءة د. حمدان وما بين سطور كتبه ومقالاته، لأن الرجل بحدسه المبكر وبصيرته النفاذة قرع اجراسا لم يصل رنينها الى الكثيرين وحذر مما يجرى الآن من تفتيت للكتلة العربية، واعادة تقسيم فى الذكرى المئوية لسايكس بيكو. وحين يقول المصريون ان من يشرب من النيل لا بد ان يعود اليه وذلك لسبب ما ترسب فى ذاكرتهم من خبرات وتجارب عن اشخاص اعادهم الحنين من مسقط الرأس الى مسقط الروح. ان الجدلية بين عبقرية المكان وعبقرية التمصير لها تجليات قابلة للرصد بالعين المجردة!!. لمزيد من مقالات خيرى منصور;