بدءا، ليست المديونيات اقتصادية فقط، فهي ثقافية وحضارية ايضا، واذا كان خبراء الاقتصاد قد احتكموا الى حواسيب ذكية من طراز آخر ليرصدوا حجم ديون مصر الخارجية، فإن المديونيات التي اتحدّث عنها في هذا السياق المُغاير لا حواسيب لها، وما من نسبة ربا سياسي كتلك التي تضاف الى المديونيات الاقتصادية، وحين انشئت جامعة فؤاد الأول في مطلع القرن العشرين كأول اكاديمية في هذه المنطقة، بدأت انظار العرب والأفارقة وشعوب اخرى من آسيا والشرق الأوسط تتجه الى تلك القلعة الاكاديمية، وكان الأزهر الشريف بأروقته المعروفة قد سبق الجامعة الى اجتذاب اعداد غفيرة من الطلبة، اذكر للمثال فقط ان خالي الضرير كان بينهم ونال العالمية من الازهر في ثلاثينيات القرن الماضي وقرر ان لا يعود الى مسقط رأسه دير الغصون وأقام حتى الموت في بلبيس إماما ! واثار انتباهي لأول مرة الى ديون مصر على العالمين العربي والاسلامي في مجال التعليم والتنوير بالتحديد عدد ممن تولوا مناصب رفيعة في العديد من الاقطار العربية، فالمحامي والطبيب والمهندس والصيدلي اضافة الى رئيس الوزراء والوزير والسفير يعلقون على جدران مكاتبهم او منازلهم شهادات ممهورة بتواقيع جامعات ومعاهد مصرية . وحين كنت طالبا في جامعة القاهرة كانت الرسوم الرمزية المقررة على الطلبة الوافدين اقل من اربعة جنيهات مصرية مما اتاح لأسر عربية متوسطة وفقيرة احيانا ان ترسل ابناءها الى مصر، في غياب الجامعات عن معظم العواصم العربية في تلك المرحلة، واذا كانت مصر بما ظفرت به من عبقرية المكان وخصوصية الدور والريادة لا ترى في هذا كله ديونا، فإن لي وجهة نظر اخرى لأنني كلما قرأت عن ارتفاع نسبة الأمية في بلد التنوير شعرت بأنني اخذت فرصة رجل مصري من جيلي، رغم ان مصر ترى غير ذلك، وبالفعل التقيت ذات يوم السيدة منى عبد الناصر على هامش ندوة حول الاعلام والتنمية عقدت في القاهرة، وقلت لها انني من قرية عربية نائية ولولا مصر وبالتحديد عبد الناصر لما التقيتها ولما وصلت مصر او شاركت في ندوة، لكنها اجابت بحصافة ونبل انني انتمي الى شعب ذكي وكان لا بد ان يجد طريقه الى التعليم !.. ان عدد من تخرجوا من جامعات مصر ومعاهدها في العالم العربي سيبدو مفاجئا اذا أعلن بشكل دقيق . ولو كان لهؤلاء منتدى قومي شأن معظم خريجي الجامعات ومنها الجامعات الامريكية لربما نافس عدد جيش ! . والجانب الآخر من هذه الديون المعرفية والفنية والاكاديمية تجسد في التأسيس الميداني للمسرح والسينما وفنون أخرى كالباليه، وهنا نتذكر الراحل الرائد زكي طليمات ومحمد توفيق وكرم مطاوع وكذلك الراحل عمر الحريري وآخرين ممن غادروا مصر لبعض الوقت كي يؤسسوا في اقطار عربية حديثة العهد بهذه الانشطة نواة لمسرح او سينما، تماما كما فعل اساتذة فلسفة وعلوم وآداب ومستشارون وقضاة، عندما كانوا النواة الأولى لاكاديميات عربية منها ما أصبح ذا شأن في هذا المجال . ولا اظن ان هناك مثقفا او فنانا عربيا لا يشعر بأنه مدين لمصر، حتى لو انه تلقى علومه خارجها، ذلك لأن قوتها الناعمة التي واصلت نفوذها رغم الانعطافات السياسية عبرت اسوار الجامعات الى الشارع والبيت والمقهى، فقد مرّ وقت قبل ان ينتشر الساتلايت وتتناسل الفضائيات كالأميبا كان الناس فيه يضبطون مواعيدهم ولقاءاتهم تبعا للأوقات المخصصة لبثّ المسلسلات المصرية خصوصا اذا كانت من طراز ليالي الحلمية وأرابيسك والشهد والدموع والراية البيضا والأيام وغيرها . وذات يوم زارت اسرة مسلسل ام كلثوم عمان، واقام لها السفير المصري حفل استقبال، شاهدت بنفسي احد المسئولين الكبار يسأل عن عبد الناصر ثم عرفت انه يقصد الفنان رياض الخولي الذي قام بدور الرئيس، اما الصديق عدنان ابو عودة وكان رئيسا للديوان الملكي فقد قال للفنانة صابرين انه يحرص على موعد واحد خارج مواعيده الرسمية هو موعد بث حلقات المسلسل . وهذا الصديق هو الذي اخبرني بأن صاحب مصطلح القوة الناعمة وهو الامريكي جو ناي كان من حيث لا يدري يتحدث عن دور الفن والثقافة في مصر على الصعيد القومي ! وما قاله المصريون انفسهم عندما اعلن عن حملات التبرع وهو تسديد الدين للأم الرؤوم علينا كعرب ومن باب أولى ان نقوله بصوت جهوري، فما يمكن تقديمه لمصر ليس تبرعا وليس هبة خالصة بقدر ما هو محاولة لتسديد مديونية، سواء تعلق الامر بالدم او الحبر او حتى الأثير . وحين اقترحت في هذه الزاوية من الاهرام العزيزة ان يكون النيل في الصميم من القمة العربية القادمة ، فذلك ينطلق من الاحساس ذاته، لأن اول قمة عقدت في مصر كانت دفاعا عن مياه نهر الاردن ضد محاولات السطو عليه وتحويله، ان ما يتحرج الاشقاء المصريون من قوله لأسباب تتعلق بالعفة او القناعة بالدور، علينا كعرب ان نقوله بلا تردد، فأجدادنا الذين هاجروا من الشام الى مصر تحت وطأة التتريك ومطاردات العسس والباب العالي وجدوا في ارض الكنانة الرافعة بل المجال الحيوي الذي يستوعب طاقاتهم، فمصر على امتداد تاريخها امتلكت قُدرة استثنائية على الهضم الديموغرافي والتمثل فهي ليست ذات ديناميات طاردة بل امتصاصية وهذا ما جعلها بوتقة حضارية للدمج والاذابة، فهي مصرية بقدر ما هي قبطية واسلامية وفرعونية ! لهذا نرجو ممن يعزفون على وتر المديونيات المصرية اقتصاديا ان يتركوا لنا هامشا للحديث عن مصر الدائنة، فهي الام التي ادخلت الى غرفة الانعاش لفرط ما نزفت من اجلنا جميعا، والتخلي عنها يتجاوز العقوق الى الخذلان . لهذا اقترح وبشكل اولي ان تقدّم لنا احصائيات دقيقة او على الأقل تقريبية عن اعداد العرب الذين رضعوا من جامعات مصر ومعاهدها علومهم وعلى امتداد عدة عقود . فالأمية الآن بغض النظر عن منسوبها في مصر عورة تخصّنا جميعا وعار علينا ان نسارع كي نتطهر منه . ونحن نعرف حجم الدور التربوي والاكاديمي الذي قدمته مصر للعالم العربي، ففي وقت ما ارسلت حتى الطباشير والكراريس، والآن في عبورها التاريخي الثاني الى آفاق طالما حلمنا بها جميعا تستدعي كل احتياطاتها الاستراتيجية وفي مقدمتها الاحتياطي الوطني والقومي، مما يحفزنا على استدعاء ما لدينا من احتياطيات، وهي اغنى من اية مناجم . انها لمفارقة ان يكون الدائن مدينا، وان يتحول الفائض الى نقصان، لهذا ووفق ابسط البدهيات القومية ندرك بأن عبور مصر الى المستقبل هو عبورنا جميعا وقد جربنا خلال العقود العجاف التي شهدت انحسارا كارثيا لكل أحلامنا كيف ان جدلية النهوض والسقوط محورها مصر، فحين يتراجع دورها في الأقليم تسارع قوى اخرى لملء الفراغ على حساب مشاريع وبرامج قومية اضافة الى الهوية . فهل ستُتيح لنا مصر مجددا ان نعثر على دور ما في هذه النهضة الثالثة ؟ كي نسدد مديونية علمية وسياسية واخلاقية تراكمت في زمن البطالة القومية والاستنقاع الثقافي والارتهان ؟. لمزيد من مقالات خيرى منصور