تلك هى المعادلة التى فرضتها ديكتاتورية الجغرافيا وجدلية التاريخ، والتى اصبحت مقترنة بعالم الجيوبوليتيك الراحل د . جمال حمدان واطروحته الرائدة عن عبقرية المكان. فالعرب بلا مصر لا يخسرون فقط تسعين مليون عربيا يعيشون تحت سقف حضارى منذ عدة ألفيات، بل يخسرون ما يمكن تسميته بلا تردد " الخميرة " وذلك السرّ الخالد الذى مصّر العرب بقدر ما عرّب مصر. ومثل هذه الكيمياء القومية ليست عصيّة على التفكيك فقط، بل هى مصلحة ايضا، بعد ان قال ارخميدس السياسة لا الفيزياء : وجدتها، وهى باختصار ان الدولة التى تعيش داخل حدودها فقط وتتشرنق فى عصرنا هى دولة فى مهب عواصف العولمة وأعاصير التكتلات والاندية الاقليمية على غرار الاتحاد الاوروبي، حيث ما من مأمن لدولة بلا سياق يضمن لها الحدّ الادنى من الأمن ويضعها فى سياق اقتصادى يضاعف من ديناميات النمو والتنمية معا على اختلاف مجالاتهما ... عرب بلا مصر، جسد منزوع منه النخاع وليس العظم والعمود الفقرى فقط، فهى الرافعة بعدة امتيازات فى مقدمتها امتياز الحضور المزدوج اقليميا ودوليا اضافة الى انها رافعة تاريخية فى التنوير والتحديث، وما كان لنهضة القرن التاسع عشر ان تطرق ابواب الحداثة لولا عبقرية المكان التى اجتذبت التنويريين من بلاد الشام، بعد ان طاردهم الباب العالى ومنهم صاحب طبائع الاستبداد عبد الرحمن الكواكبى الذى مات فى القاهرة بعد مطاردات مستمرة من العسس العثمانيين . عرب بلا مصر دائرة لا تفقد قوسا واحدا من محيطها بقدر ما تفقد المركز، لهذا رغم ثنائية المدّ والجزر التى تحكمّت بالعلاقات بين مصر وسائر الوطن العربى بقى هناك ثابت استراتيجي، تبنّاه حتى غزاة مصر والعالم العربى مثل نابليون حيث التوأمة الاستراتيجية بين عكا والاسكندرية هى مجرد احد تجليات هذه التوأمة القدرية بين الشام ومصر . ومقابل ذلك كله .. هل يمكن لمصر ان تكون مصربلا مجال حيوى قومى وبدون التكامل الذى طالما حلم به العربى وفى المقدمة مصر كبديل للتآكل ؟ مصر بلا عرب تعنى الانسحاب لكى تتحول خريطتها الى غمد وهى ايضا تصبح مرسلا بلا مرسل اليه، ونحن هنا لا نحب استخدام عبارات مشحونة بالنشيد والرومانسية القومية من طراز الشقيقة الكبرى، فمصر ليست شقيقة بقدر ما هى ام رؤوم، عرفناها فى السّراء والضرّاء، ولذنا بها فى مختلف العهود طلبا للعلم او اسهاما فى التنوير او بحثا عن جدار أخير . وان كان العرب قد جرّبوا القطيعة مع مصر مما اضطر آخر القلاع القومية فيها وهى الجامعة العربية الى الهجرة المؤقتة فإن ذلك لم يكن سوى جملة معترضة فى مجلد ضخم ! ان حاصل الجمع لخسائر مصر بلا عرب وخسائر العرب بلا مصر لا تحتاج الى حاسوب ذكى .. لأن الحصيلة هى انتحار قومى . تحمّلت مصر العبء الأكبر فى حروب العرب المعاصرة، ليس فقط لأن العزم يأتى على قدر أهله، بل لأن الدور المنوط بها وبالتحديد منذ يوليو 1952 دفعها الى نبذ أية حسابات براغماتية فى القضايا العربية وهنا ايضا لا احب استخدام مقولات تحولت الى ايقونات من طراز فلسطينية مصر ومصرية فلسطين وهى على غرار الشعار الذى يتردد الآن عن الوحدة الوطنية بين المسلمين والاقباط وهى الهلال اخ الصليب، ذلك باختصار لأن الهلال صليب عندما يتطلب الأمن القومي، كما ان الصليب هلال، وهذا ما مارسه ميدانيا الشيوخ والقساوسة فى ثورة عام 1919 . ما من مسافة الآن بين مصر وعروبتها وبين العرب ومصريّتهم لأن المصهر الذى تحدّث عنه الراحل جمال حمدان يحذف المسافات، فالماء لمجرد ان اصبح ماء لم يعد مصاهرة او زواجا بين الاكسجين والهيدروجين، وللتاريخ ايضا فيزياؤه وبالتالى نفوذه الذى لا يقاوم بالهويات الصغرى، فمصر كانت على الدوام الرائدة فى تحويل جحيم الطوائف الى جنة الاطياف . لقد حاولت منذ السطر الأول ان انجو بقدر المستطاع من أدبيات النشيد ونزيف العواطف الموسمية، لأدخل البيت من بابه، فالأهرام التى تنشر هذه السطور احد النماذج التى جسّدت الانصهار القومي، بدءا من الاخوين تكلا حتى هذا الصباح . لهذا على ان اتنبه ثم أنبه الى مسألة قد تبدو هامشية، لكنها من صلب المتن، وهى ان عروبة مصر لا تحذف مصريتها، بل تحرص عليها لأنها كانت الجاذب السّحرى لحضارات وثقافات امتدت عدة ألفيات من السّنين لأن مصر تمتاز بدينامية امتصاص من طراز فريد، ولها قدرة على التمصير وبالتالى التعريب حتى لهؤلاء الذين وفدوا اليها مستشرقين أو على سفن ملحقة بالاساطيل، يشهد على ذلك بيرم وحداد وآخرون، وحتى الذى مُصّر اسمه ليصبح سليمان باشا فى قلب العاصمة . ثمة الآن ما يفرض علينا كعرب وبالحاح أن نستبدل تلك اللوغارتمات المبهمة فى فقه الطوائف والهويات المستولدة بالانابيب الايديولوجية، بحيث تكون لنا رياضيات قومية تدلنا على الجمع بدلا من الطرح، والاضافة بدلا من الحذف . أما من يتصورون بأن هناك مصرا بلا عرب او عربا بلا مصر فليذهبوا بهذه الاحجية الى من يحلمون بإعادتنا الى الباب العالي، وهذه مناسبة لتجديد الشكر لعمرو موسى الذى شكرته قبل اعوام وبشكل شخصى ومباشر لأنه لم ينسحب من منصة دافوس بعد انسحاب اردوغان، لأنه لو فعل لجرّنا جميعا الى ذلك الباب ! كاتب أردنى لمزيد من مقالات خيرى منصور