آن الوقت كى يبتهج الساسة، والباحثون، والخبراء الذين ظلوا لسنوات طويلة يتحدثون عن «التنمية المستقلة» أو «التنمية الذاتية» أو ما كان يطلق عليه «الاعتماد على الذات» بعد أن بدأت أكبر دوائر التنمية الأكاديمية فى العالم تتحدث عن أن مفهوم «التنمية العالمية» بات يخص دول الشمال مثلما يخص دول الجنوب، وأنه لم يعد هناك طرف متقدم يصدر فكر وممارسة التقدم للآخرين فى صورة «خارطة طريق» معدة سلفا ينبغى اتباعها حرفيا، ولكن أصبح على كل من الشمال المتقدم أسوة بالجنوب النامى أن يتبادل الرؤية، والخبرات، والتجارب. منذ عدة سنوات كنت فى زيارة إلى معهد دراسات التنمية الشهير بجامعة «ساسكس» ببريطانيا الذى درست فيه منذ خمسة عشر عاما، جمعنى حوار مع أستاذة معروفة بإسهاماتها فى مجال التنمية، انتقدت فيه بشدة سعى الهيئات المانحة، والدارسين، وبعض وكلاء التنمية المحليين فى دول الجنوب إلى الحديث عن أن التقدم «وصفة غربية» أولى بالاتباع، وذكرت أن هذا النمط من التفكير أضعف مقومات التنمية فى الدول متلقية المعونات والمنح. وقالت لى مازحة: لم يعد أحد يطيق فى المعهد سماع حكاية نقل الخبرات من الغرب إلى الدول النامية. فى العدد الأخير من مجلة معهد دراسات التنمية الشهير بجامعة «ساسكس» ببريطانيا الذى صدر الأسبوع الماضى تحليل مكثف للاتجاهات الجديدة فى التنمية الدولية، والتى تقوم على الندية بين الشمال والجنوب فى مجال التنمية. شهادة مهمة من أهم دوائر أكاديمية غربية تدرس التنمية منذ أكثر من نصف قرن، ومن أروقتها خرجت رؤى ونظريات وأفكار هيمنت على فكر وممارسة التنمية. الأسباب التى دعت إلى التفكير فى النظرة الكونية للتنمية متعددة: تزايد مساحات التهميش والفقر فى الدول الغربية، المشكلات الكونية الضاغطة مثل التغيرات المناخية، الأزمات الاقتصادية خلال العقدين الأخيرين، الشعور بأن رخاء العالم يحتاج إلى تعاون وثيق بين الشمال والجنوب. فى الواقع فإن الدوائر الأكاديمية فى الغرب، فى أغلب الأحيان، تحتضن باحثين لا يستحون من تطوير أفكارهم، وممارسة النقد العلمي، وتقديم رؤى جديدة. وكلما أطلعت على انتاجهم تجد رغبة فى تجديد الفكر، هذا رغم أن بعضا منهم أسير رؤى كلاسيكية عتيقة لا يريد أن يبرحها فى بعض المجالات. الإشكالية الحقيقية تخصنا قبل غيرنا، فى نظرتنا لأنفسنا، ونظرتنا للآخرين، بما نسميه فى اللغة الدارجة «عقدة الخواجة»، أو ما شرحه المفكر اللبنانى مصطفى حجازى فى كتابه «مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور»- أى شعور الجنوب- محط الاحتلال الغربى فى السابق- برغبة عارمة فى التماهى بالمستعمر السابق، واعتبار أن التقدم يتدفق من الشمال، ولا مجال لإسهام ذاتى فيه. اليوم تراهن الدوائر الأكاديمية الغربية على ما يمكن أن تطلع عليه من أفكار، ورؤي، وممارسات فى التنمية قادمة إليها من دول الجنوب التى ظلت لسنوات طويلة تستورد الأفكار، والنماذج، والخبرات من الغرب المتقدم، ليس هذا فقط بل تعطل ملكات التفكير الذاتى النقدي، وترمى كل من يتحدث عن التنمية المستقلة أو الاعتماد على الذات بأوصاف منها ما هو سياسى كالاشتراكية، ومنها ما هو ثقافى كالجمود، والمغرقون فى النزعة الغربية اعتادوا أن يرموا خصومهم بالتخلف، بمعنى التخلف عن اللحاق بركب التقدم الذى هو تشكله الحضارة الغربية فى رأيهم. بالطبع تعددت المدراس التى سعت إلى تحقيق الاستقلال فى التنمية. بعضها تحدث بوازع وطنى إدراكا منه لقدرات وإمكانات المجتمعات، والرغبة الجادة فى حسن توظيفها والإفادة منها، وبعضها الآخر غلبه هوى سياسى مثل التيار الإسلامي، الذى تحركه بواعث ايديولوجية، ورغبة فى مواجهة الغرب، دون أن يهتم بتطوير نموذج تنموى أو خبرات ذاتية يمكن الركون إليها، أو تعميمها. يجب ألا يفهم من كلامى أن الغرب ليس متقدما، هو بالفعل متقدم فى العلم والخبرة والثقافة، ولكن التطور لا يأتى باستيراد النماذج، أو البحث عن الوصفات الجاهزة، بقدر ما يتحقق من خلال التفاعل الايجابي، وتبادل الخبرات، والإبداع فى التفكير. وقد تنبهت مكتبة الإسكندرية منذ عامين إلى أهمية تقديم فكر تنموى مبدع، لا يقوم على النقل النصى أو الحرفى من الدوائر الأكاديمية الغربية، بقدر ما يعتمد على التفاعل ما بين الفكر والخبرة الواقعية، وصدر عدد من الأوراق البحثية فى هذا المجال اعتمدت على توثيق تجارب التنمية الناجحة فى المجتمع المصري، وتقديم نماذج من الإبداع مع الناس فى المجتمعات التى تحتاج دائما إلى تدخلات تنموية يظهر فيها العقل المبدع، والقدرة على التكيف مع الواقع، وابتكار الحلول للتغلب على المشكلات. هذا هو مستقبل التنمية الذى نرجوه. لم يعد الأمل معلقا بأجندة ممول أو فكر مستورد، ولكن بقدرة المجتمع على اكتشاف نفسه، والإفادة القصوى من خبرته، وتعظيم المشاركة بين أبنائه. هل يمكن أن تقوم وزارة التنمية المحلية، وعلى رأسها وزير مثقف هو الدكتور هشام الشريف، بتبنى مشروع قومى لتوثيق تجارب التنمية التى حدثت فى مصر على مدى أكثر من نصف قرن، والسعى لمعرفة ما حدث فيها، وكيف تحقق النجاح أو حدث الاخفاق فيها؟ لمزيد من مقالات د. سامح فوزى ;