تحت شجرة الخلد والملك الذى لا يفنى كاد إثنان من العشاق أن يقتتلا ؛ أولهما هو ليندون جونسون رئيس اكبر قوة نيران فى القرن العشرين ، ومعه عشيقة إسرئيلية اسمها مليكة التى تركت بيت الزوج وأقامت فى نفس الطابق الثانى بالبيت الأبيض ، وطلبت مهرها رأس يوحنا المعاصر الموكل إليه إنقاذ ضعاف الكون واسمه جمال عبد الناصر. وقد كان لها ما أرادت بإنطلاق حرب الأيام الستة فى الخامس من يونيو 1967 ؛ وضحك جونسون طالبا من العشيقة أن تشهد له بمكتمل الرجولة بعد أن عذبته لشهور بأنها لم تصل عبر حبه إلى حدائق الخلود ، وشهدت العشيقة لجونسون بما تمناه منها عندما شاهدت عبر شاشة التليفزيون مشاهد تحطيم المطارات المصرية وجثث الشهداء تفترش رمال سيناء ووصول موشيه ديان إلى قلب القدس . ............................................... وفى نفس الوقت كانت رقبة عبد الحكيم عامر تشكو لخالقها كيف خان قسمه لعبد الناصر بأن الإنتصار على إسرائيل مهمة معلقة على رقبته ، وعندما تيقين عبد الحكيم عامر أنه مهزوم قبل أن يصل إلى تل ابيب كما وعدنا؛ عند تلك النقطة وصل إلى ضرورة الإنتحار؛ وفكر للحظات فى زوجة الظل وهى الممثلة التى شهد لها بجدارة الموهبة أحد سادة المسرح المصرى زكى طليمات ، وهى من تركت التمثيل لترفل فى القفص الذهبى للزواج السرى متمتعة بكامل رعاية الرجل الثانى فى حكم مصر، الذى سمعت نقلا عنها قوله بأنه «لو كان يعلم» أن هناك مباهج فى الحياة مثل الحياة معك لما كانت هناك ضرورة للمشاركة فى ثورة يوليو». وكنت قد إلتقيت بها بعد حوار دار بينى وبين صديقى شعراوى جمعة وزير داخلية ذاك الزمان ، حين سألنى هل هى مؤمنة فعلا بمبادئ ثورة يوليو؟ . فضحكت قائلا « ليس مطلوبا من ممثلة عبقرية فى دور بنت البلد ان تكون مؤمنة بالثورة وبالميثاق الذى يرسم الطريق إلى مجتمع عادل، ومن المؤكد أنها لاتعرف أن بمصر تنظيما سريا اسمه «طليعة اٌلإشتراكيين» يربط مصر من أقصاها إلى اقصاها تحت قيادتك. ولنفسى أردت التعرف عليها ، وكان بروز اليوسف تيلفونست اسمه « عم عوف » وليس عليك سوى أن ترسل له كوب شاى ثم تطلب منه إيصالك بأى شخصية على الخريطة المصرية وسيفعل ذلك فى ثوان . وقد اوصلنى بها لتحدد لى موعدا ذهبت إليها مع زميلتى نجاح عمر لنفاجأ بأنها تسكن فى الشقة الواقعة فوق شقة نجيب محفوظ كاتب زماننا الاشهر. وفتح لنا الباب شاب إيطالى وسيم ؛ ثم جاءت لتقدم لنا هذا الإيطالى بأنه « تونى « مدربها الرياضى الذى يزورها ليرسم معها برنامجها الرياضى الذى يحفظ رشاقتها . وبدأت تحكى مشوارها عبر تذكر خطيبها الاول الذى كان يساريا يعرف كيف يعلم الاتباع ؛ لكنه ترك مصر كلها خوفا من الإعتقال . وأقام فى باريس, ودار بيننا حوار عن مباذل الإقطاع . وروت لنا كيف ان إقطاعيا بالدقهلية كان حتى تاريخه فى منتصف 1966 ؛ يصر على الزواج العرفى باى فلاحة حلوة قبل ان تزف لمن إختارها من شباب القرية ؛ ثم يطلقها الإقطاعى لتمر ثلاثة شهور وليتم زواجها بعد ذلك بمن سبق واختارها ، ويتم تجهيز بعض حوائجها مما يدفعه الإقطاعى كمؤخر صداق شرعى وهو فى حقيقة الأمر ثمن إستمتاعه معها لمدة حددها مزاجه ؛ ورصدت لجنة تصفية الإقطاع عشرات الحكايات من مباذل يصعب تصديقها كحقائق وقعت فى القرن العشرين . ولاحظت زميلتى نجاح عمر أن برلنتى عبد الحميد تذكر اسم عبد الحكيم عامر كثيرا بغير مناسبة. لكن السر انكشف أثناء مرارة أيام الحنظل بعد هزيمة يونيو 1967 وهكذا صارت رقبة عبد الحكيم عامر معلقة على مشنقة الخجل من النفس . وطبعا كنت واحدا ممن توهموا التصديق بعمق إيمان عبد الحكيم عامر بأفكار الثائر جمال عبد الناصر. وجاءت التفاصيل بعد ذلك تحكى كخنجر مغروس فى القلب قصة الصراع المكتوم بين جماعة عبد الحكيم عامر وجماعة الرئيس جمال عبد الناصر، ولأنى كنت أسكن خلف بيت جمال عبد الناصر ولا يفصلنى عن بيته سوى شارع وحديقة بسيطة ، لذلك كانت ليلة انتحار عبد الحكيم عامر صاعقة عندما عرفت تفاصيلها من صديقى محمد زغلول كامل المدير الأسبق لجهاز الخدمة السرية الذى كان يداوم زيارتى ليدور بينه وبين السيد سامى شرف حوارات تليفونية قبل أن يذهب للقياه. وقد شككت لوهلة ان يكون السيد امين هويدى قد قام بإصدار حكم النهاية على عبد الحكيم عامر بعد إنكشاف مرارة ما وقع لنا جميعا ؛ خصوصا وان بينه وبين عبد الحكيم عامر مرارة خاصة حين حاول تقديم عدة آلاف إسترلينيه له اثناء وجوده كسفير لمصر فى العراق فقال امين هويدى « مرتبى يكفينى » فصار ثقيل الدم على عبد الحكيم . فما بالنا وهو من رسم خريطة إعتقال عبد الحكيم عامر مع شعراوى جمعة وسامى شرف ؟ وفى جلسة صفاء جمعتنى مع أمين هويدى بعد صلاة الجمعة فى جامع الثورة والذى كان يؤمه أغلب قيادات يوليو ؛ سألت أمين هويدى بشكل مباشر « هل أنت من قمت بتصفية عبد الحكيم عامر ؟ « أجاب بضيق » لو كنت رئيس محكمة عسكرية لمحاسبته لأصدرت حكم الإعدام ؛ لكنه قام بتوفير ذلك علينا جميعا . بعد هذا اللقاء تركت جلسة زغلول كامل وشعراوى جمعة وامين هويدى لادلف إلى مبنى القيادة المشتركة حيث يعمل صديقى وشاهد زواجى فيما بعد العميد عدلى الشريف المسئول عن علاقة الخارجية المصرية بالصليب الدولى وتجتمع عنده طلبات معرفة مصير العديد من المفقودين بحرب يونيو ، وفوجئت بأن عدلى الشريف كان ينتظر خبر عودة بعض من رجال الصاعقة الذين كلفهم اللواء محمد صادق قائد المخابرات الحربية آن ذاك ، بعبور قناة السويس وإحضار صاروخ صغير من اى موقع إسرائيلى . ثم دخلت بهم سيارة كبيرة ، ليقول لهم مدير مكتب محمد صادق ان لهم ان يستريحوا قليلا مع كوب شاى قبل أن يصحبهم اللواء محمد صادق إلى بيت الرئيس عبد الناصر وسمعت منهم فى دقائق قصة الرعب الإسرائيلى من المقاتل المصرى , وتلك كانت فترة حرب الإستنزاف ؛ التى بدأت بسمفونية من المدفعية رسم خريطتها عبد المنعم رياض بأسلوب ما يسميه العسكريون « البيان الأول » وهو عادة ما يكون « البيان الأول » هو درس المدفعية التى تبدأ به تدريبات المستجدين فى سلاح المدفعية. رسم عبد المنعم رياض بعيون الخيال سقفا فوق كل المواقع الإسرائيلية على ضفة القناة ، ورتب طلقات المدفعية فى زمن محدد لتستهلك دانات المدافع كل الاوكسجين الموجود تحت هذا السقف فيموت كل كائن حى له قدرة التنفس إن كان موجودا تحت هذا السقف . وبطبيعة الحال عانت إسرائيل مرارة لا تقل عن مرارات تجرعناها بسبب الهزيمة؛ وقد درست إسرائيل إهانة عبد المنعم رياض لها ، فوجهت مدفعيتها فوق منطقة تسير فيها عدة سيارات ؛ وتصادف وجود عبد المنعم رياض بإحداها لينزل زائرا لموقع قتالى فإنفجرت الدانات من فوقه لتسرق الاوكسجين ولتصعد روح عبد المنعم رياض إلى بارئها ، بعد ان قام بدراسة ملف كل ضابط مقاتل بالقوات المسلحة وأبقى على المؤمنين بأن المقاتل هو اول من يضحى وآخر من يستفيد. .......................................... طبعا كانت حياتنا بعد الهزيمة قد انقسمت إلى حياتين ، الأولى هى حياة المقاتلين على ضفاف القناة الذين ما ان وصلهم نبأ إستشهاد عبد المنعم رياض حتى خرج من بينهم المقاتل إبراهيم الرفاعى ومعه مجموعته ليعبروا القناة ويبيدوا كل حياة فى الموقع الذى إنطلقت منه الدانات التى سرقت منا روح عبد المنعم رياض . ولعل خطة المدفعية فى بداية حرب أكتوبر قد أرسلت تحية إلى روح عبد المنعم رياض حين عزفت طلقات مدافعها لمدة تقترب من الساعة لتخلى أى حياة بشرية من على الضفة الأخرى ، وبدأ العبور ليقوم بتطهير المواقع من دنس الإحتلال . ............................... كانت حياة القتال تمثل نوعا أسطوريا من شجن الحلم بالنصر وكلما تذكرت تلك الأيام أجدها فى رأسى على هيئة معادلة بسيطة « تحديد المهمة ثم التدريب عليها لتصل إلى النتيجة المرتجاة ». ومهما كتبنا من أغانى أو روايات عن الحياة فى تلك الفترة ؛ فالهوة بين حياة القاهرة وحياة السويس وبور سعيد والإسماعيلية ، بينهما فجوة يصعب تصويرها بالكلمات . فمن يصدق دعوة جاءتنى من عادل طاهر مسئول السياحة المصرية آنذاك لاكون ضمن الصحفيين الذين عليهم إستقبال عبارة تدور موانى البحر المتوسط ويركبها السائح بسيارته لينزل فى اى مدينة على البحر يقضى فيها يوما او إثنين ثم يعود إلى العبارة بسيارته لينتقل عبر المتوسط إلى ميناء آخر. وطبعا كانت وزارة السياحة قد أعدت لنا برنامجا ترفيهيا كان من ضمنه سهرة فى حديقة فندق فلسطين ؛ ولان الدنيا صيف ؛ لذلك كانت الطبقة الجديدة ترفل فى ليلة صيف راقصة لاهية. وطبعا فوجئت بوجود صديقى المقاتل أحمد عبد العال الذى خاض حرب اليمن بكامل أيامها . وعندما عاد كان عليه كفرد فى الصاعقة البحرية أن يقضى أغلب الوقت على جبهة القتال وفى تلك الليلة كان مستجيبا لدعوة أصدقائه لسهرة عشاء بفندق فلسطين . قال لى صديقى المقاتل أحمد « أنت تذكر أخر لقاء لنا بفندق فلسطين » قلت طبعا أذكر . راح يبتسم ويروى لى كيف كان منتدبا من جهازه الهام ليرقب حركة العديد من الوفود العربية التى حضرت إلى هذا الفندق عام 1965 كى يشتركوا فى مؤتمر القمة العربية الذى تم بناؤه خصيصا فى اسابيع قليلة ليتم عقد المؤتمر فيه . وتناقلت بنا الحكايات عن حرب اليمن ليروى لى ماحدث من صديقى الأثير د. فؤاد بشاى ميخائيل، هذا الذى انتشرت حكايته بين من عاشوا تلك الحرب ، حين كان بمنطقة جبلية ينطلق فيها رصاص التابعين للإمام بدر حاكم اليمن الذى طردته الثورة ، لكن بعض القبائل إعتبرته كائنا مقدسا نورانيا لأنه يدهن نفسه بدهان فسفورى فيضيء بملابسه فى الظلام . وكان هناك مقاتل مصرى يجادل فؤاد بشاى فى كل شيء ويختلف معه فى كل شىء ، لكنه إصيب بطلقة فى رقبته وهو على قمة جبل يبعد عن موقع الطبيب فؤاد بشاى الذى خالف كل تعليمات قائد الموقع وزحف لينقذ من يجادله . وإستطاع بحراسة جنوده وحده ان يعود بمن يجادله لينقله إلى المستشفى وهو يهمس فى أذنه إن صعدت روحك إلى السماء فمن سيناقشنى فى عدم جدوى الحياة التى نحياها ؟». وطبعا كانت النجاة من حظ فؤاد وصديقه الذى يناقشه . ومضت كلمات المقاتل أحمد لتصل إلى ما حدث أثناء وجوده فى الفندق عندما التقى أثنان من قادة الحرب كانت بينهما حرب ضروس ، وكان يرقب المشهد مع أحمد أحد الصحفيين الإنجليز، وكان أحد القادة يقول للثانى « العند يورث الكفر فلماذا لا ننهى خلافاتنا ؟ » وراح الصحفى الإنجليزى يردد الكلمة « الإند يورس الكفر » ويطلب ترجمتها ، فترجمها له أحمد وهو خريج كلية فيكتوريا وعاشق للبحرية . سألت أحمد ليلتها عن أحوال القتال على جبهة النار فأجابنى ليس أمامنا سوى الإنتصار . وعندما سألته عن صخب الحياة اللاهية بفندق فلسطين ، قال : لم يطلب أحد من المصريين شيئا وبخلوا به، فلماذا تبخل أنت عليهم بنوبات عشق الحياة بالسهر والإنطلاق ؟ إن كل بيت فى بر مصر له إبن على خط النار فإذا عاد ووجد اصدقاءه فى نشوة وإنطلاق فهو معهم قبل أن يعود إلى موقعه ليعيش روح القتال . ............................... أثناء الخروج من الفندق كان من المفاجئ لقاء عود الورد البلدى المسمى عبد الرحمن الابنودى ، هذا الشاعر الذى عاش سنوات حرب الإستنزاف كما لم يعشها شاعر مصرى فقد عاشها على خط المواجهة بالسويس ؛ وكان يقول دائما ليس بشاعر من يترك حربا عادلة ولا يعيشها . وكان يتذكر شعراء فرنسا الذين عاشوا ايام تحرير بلدهم من الإحتلال الالمانى بثقة وتضحية . كان عبد الرحمن الابنودى قد قبل دعوة الموسيقار كمال الطويل ليمضى بضعة أيام فى صيف الإسكندرية. يتذكر عبد الرحمن كيف عاش صديقنا الشاعر امل دنقل لشهور فى الإسكندرية . حكى عبد الرحمن عن توجس أمل القاتل بان السرطان لابد سيزوره كما اخبره طبيب بالأقصر. وكان هذا التوجس يلعب دور لص البهجة التى تصر عليها اعماق امل دنقل . ............................... وعندما إنطلقت قواتنا لتنتصر فى أيام اكتوبر كان الشجن كله يغمر كالطوفان كل البيوت ، فهاهى العمة حورية الطنطاوى جوهرى ابنة عالم الدين الشهير المسمى باسمه عدة مدارس وجامعات فى جنوب شرق آسيا وصاحب تفسير معتبر للقرأن الكريم . وهى من قبل ومن بعد والدة أقرب أصدقائى لى هو المهندس على عبد السلام عمر الذى عاد من عمله بالجزائر لمجرد وصول إستدعاء له للقتال . جاءه الإستدعاء بينما أشقاءوه الثلاثة على خط النار ، مهندس بسلاح الطيران ومهندس بالمشاة ومهندس فى الإتصالات . وجاء على عمر ليلحق بأشقائه الثلاثة . وما أن بدأ القتال حتى كنت أزور العمة حورية كل يوم وأجد على لسانها «فليأخذوا حياة أى عدد من شبابنا بشرط أن ننتصر». وعن نفسى لم أكن أحب أن ينقلب قلقها على أبنائها الأربعة إلى هذه الدرجة من شجن الخوف المتراقص بين موجات الإذلال التى ذقناها فى حرب يونيو وأمل الإنتصار الذى لا مفر منه . وجاء الإنتصار لتسقط العمة حورية فى دوامات من بكاء لم ينقطع ، وهى تحتضن أبناءها الأربعة الذين عادوا من القتال وفى جعبة كل منهم عشرات الحكايات . ............................... كنت واحدا من ضمن من صدقوا أن مصر بعد إنتصارها الكاسح على إسرائيل لابد وأن تخطط لها الولاياتالمتحدة خطة إرضاخ من نوع مختلف. ............................... وهاهى السنوات تمر لتنكشف كل ألاعيب تكوين طبقة رجال أعمال ينتمون إلى الثروة كثيرا وإلى الوطن قليلا . ومازال مشوار البحث عن الحياة اللائقة يموج كالحلم فى أعماق المصريين. وأضحك بينى وبين نفسى لصورة جونسون المزدحم بالغيظ من جنازة عبد الناصر ، وكانت عشيقته مليكة تلعنه فى ذكرياتها كعاشق خائب . ولا أدرى لماذا ربط خيالى بينها وبين النجمة برلنتى عبد الحميد زوجة السر فى حياة قائد الحرب المهزوم عبد الحكيم عامر . ولم ينس خيالى رسم صورة لجولدا مائير وبجانبها مليكة عشيقة جونسون وهما تشاهدان معا مشاهد تحطيم خط بارليف وجثث الجنود الإسرائيليين بجانب طوابير آسراهم وهى تمشى خلف العلم المصرى المرفوع على كل مواقع خط بارليف الأشهر.