كان مساء التاسع من مارس 1969 مزدحما ببرودة تنفذ إلى العظام. دق جرس باب البيت لأجد صديق أيامى العميد عدلى شريف ضابط الاتصال المصرى بالصليب الأحمر وواحدا من تلاميذ الفريق عبد المنعم رياض. كان شديد التوتر، وطلب منى أن نتمشى قليلا، كان من الطبيعى أن أسمع كلماته عبر صوته المختنق بدموع لا تنزل، فروى تفاصيل إستشهاد الفريق عبد المنعم رياض الذى لم أشرف يوما بلقائه ، لكن قرار توليه رئاسة أركان القوات المسلحة المصرية كان مثار حوار بينى وبين د. أحمد عكاشة الطبيب النفسى، الذى قال لى «كان جارنا فى المنزل نفسه ويمكن تلخيص جوهر الرجل فى ثلاث كلمات «الإتقان والمهارة والقدرة على تأسيس فريق عمل متجانس». تتبعت بعضا من تاريخ الرجل. عرفت عبر تلميذه الآخر الفريق يوسف صبرى أبوطالب، كيف دخل مكتب رئاسة الأركان ليزيل منها كل مظاهر الفخامة، ويطلب منضدة بسيطة، وأخذ يفحص ملفات ضباط القوات المسلحة الموجودين بالخدمة ليتعرف من خلالها على قدرات من يصلح للقتال .وقبل أن تبدأ حرب الاستنزاف تخيل مكعبا فى الهواء، فوق شاطئ القناة، واخرج كل مدفع من موقعه، ليواجه نقطة معينة فى هذا المكعب. وتجمع بعض من الإسرائيليين ليسخروا من تلك المسألة، فهى عبارة عن التدريب الأول لإطلاق النيران بمدرسة المدفعية، وما أن انطلقت المدافع حتى إحترق الأوكسجين الموجود داخل المكعب، فحدث تفريغ للهواء فماتت كل نملة حية تحت هذا المكعب وخسرت إسرائيل أعدادا لا بأس بها من مقالتيها، وهرب العديد منهم، إلى الدرجة التى أعادت بها إسرائيل بعضا من قواتها إلى شط القناة الشرقى بقوة الشرطة العسكرية الإسرائيلية.واستشهد الفريق رياض عندما أراد أن يرى مواقع العدو وهى مهدرة، وكان يومه السابق رحلة خارج مصر لاجتماعات عربية للتنسيق. وكان استشهاده مثيرا للشجن، حزن مغموس فى إصرار على النصر. ولا يأتى يوم التاسع من مارس من أى عام منذ استشهاده إلا أن أقف أمام صورته الموجودة فى مكتبى لأقول له «صباح الخير أيها البطل» ولعلى واحد من المصريين الذين يؤمنون أننا نحيا لأن قوة نيران وتضحيات هؤلاء الرجال تحمينا . وهل يمكن لى نسيان حوار دار بين محمد زغلول كامل أحد رجال مكتب جمال عبد الناصر وهو يمر على أفراد دفعة عام 1948 والتى أخذت اسم شمس بدران الذى كان مديرا لمكتب المشير لأنه وضع أفراد دفعته فى مواقع حساسة كى يحركها إن حدث ما يزيح عبد الحكيم عامر عن موقعه كقائد عام . وكان زغلول كامل يحاور يوسف صبرى ابو طالب، فقال يوسف «أرجو أن تبلغ الرئيس عبد الناصر أن ضباط الجيش المصرى يملكون عقيدة قتال واحدة وهى القتال دفاعا عن الوطن ، لا دفاعا عن شخص مهما علا، سواء أكان اسمه عبد الحكيم عامر أو جمال عبد الناصر. الجيش يدافع عن وطن ويحميه». وحين نقل زغلول كامل هذا الرأى لجمال عبد الناصر أصررت على أن أعرف منه رأى عبد الناصر فى مثل هذا القول ، قال لى زغلول كامل «وهل تنسى أن جمال عبد الناصر نفسه يدافع عن هذه الأرض ولا يطلب عبيدا لكن يطلب قادة. وآه من طعم الشجن فى سطور مقاتل متقاعد أنهيت كتابه «حرب الاستنزاف» فى ليل التاسع من مارس هذا العام. عنوان الكتاب «حرب الاستنزاف رؤية مشارك ّ وهو من إصدار» مركز تاريخ مصر المعاصر النابع من دار الكتب والوثائق القومية. يحكى المقاتل اللواء أركان حرب حمدى محمد زكى الشعراوى، قصة مصر مع الاستنزاف، فالقصة قديمة ذات جذور تمتد فى التاريخ، وكانت هزيمة الخامس من يونيو 1967 هى نهاية رحلة الصراع بين الباحثين عن السلطة دون القدرة على السير فى طريق أسباب الوجود على قمة إدارة هذا المجتمع، وتمثل ذلك فى جناح المشير عبد الحكيم عامر، وعلى الطرف الآخر كان جمال عبد الناصر بما يمثله من طاقة وخبرة قراءة المشهد المحلى والعربى والدولي. وقد حاول عبد الناصر إدارة الحكم دون خداع لأحد، ولكن عبيد الأطماع الصغيرة تكالبوا على مائدة عبد الحكيم عامر، التى لم يقرب منها أحد من هؤلاء القادرين على التمسك بضرورة تحقيق أحلام مجموع أهل الخريطة العربية من المحيط إلى الخليج ، ومن هؤلاء جموع كثيفة قاتلت عبر الأيام الخمسة التى استمرت فيها حرب يونيو إلى ما يفوق الخيال، وكعادة إسرائيل بإخفاء خسائرها إن انتصرت فى معركة، حاولت عبر ما تملك من سيطرة على وسائل إعلام الغرب أن تطمس قصص البطولات الخارقة للمقاتلين المصريين. وما أن أعلن عبد الناصر تنحيه فى التاسع من يونيو 1967 حتى استيقظ «الشعب المصرى» فى جموع هادرة من المحيط إلى الخليج ، تعلن تمسكها بضرورة قيادته لما آمن به من حلم، فهزيمة يونيو على مرارتها كان لها فضل أساسى هو صعود الإيمان بما لخص به أحمد عكاشة شخصية عبد المنعم رياض «الإتقان والمهارة والقدرة على تأسيس فريق عمل متجانس»، فكان الاستعداد للقتال هو جوهر أساسى يهدف إلى أن تكون لأحلام الأمة العربية قدرة على النصر . وصار العمل مع التضحية هو جوهر أيامنا على شط قناة السويس لتخرج أفكار مبدعة يندر أن يقدمها شعب على وجه الأرض، ولم يسبقها إلينا أحد، فلم يكن اختراع تفريغ خط بارليف من إمكاناته بمدافع المياه، سوى موجز لقدرة المصرى العادى على أن يستخدم أدوات البناء فى هدم أى جدار يفصل بينه وبين المستقبل، فمدفع المياه كان ابن تجربة السد العالى، ويمكن لمن يقرأ كلمات المقاتل حمدى الشعراوى أن يتعرف على حقائق وفنون صناعة النصر بما تركه عبد المنعم رياض من موجز حياته «الاتقان والمهارة والقدرة على تأسيس فريق عمل متجانس» وكان وجود رجال فى قامة عبد المنعم رياض على قمة القوات المسلحة هو فرصة لإزالة أى غبار من على المواهب الموجودة بتلك القوات التى غزلت بالعرق والدم ملاحم لم نتعرف على العديد منها حتى الآن لقصور قدراتنا على تسجيل خبرات أبطالنا البسطاء منهم والكبار، لا لندمن التغنى بها ولكن لنستوعبها فتصير مصاحبة لأنفاس الهواء التى تدخل الصدور، ولعل قادة القوات المسلحة هم أكثر من تشربوا بتلك الحقائق، خصوصا فيما بعد انتصار أكتوبر، ولم يفرطوا فى هضم الخبرات فى زمن نمت فيه طحالب البحث عن الثروة، فبعد أن حققت القوات المسلحة نصرها الذى لا نظير له بأكتوبر 1973، نما أخطبوط تفريغ الوطن من إمكانات نموه ، وطبقت الولاياتالمتحدة عبر إستراتيجيتها ما وصل بها إلى ما احتاج منا إلى الثورة مرتين، مرة فى الخامس والعشرين من يناير والثانية فى الثلاثين من يونيو ، وزاد انزعاج من يرغبون فى إخماد صيحة التحرر لإدارة المستقبل لمصلحة عموم المنطقة العربية، ومازال الصراع مستمرا لإنهاء أى استنزاف عبر عقيدة حياة بسيطة أوجزتها كلمات أحمد عكاشة عن عبد المنعم رياض «الاتقان والمهارة والقدرة على تأسيس فريق عمل متجانس»، ولذلك أقوم صباح كل تاسع من مارس لأقول لصورة عبد المنعم رياض «صباح الخير أيها البطل». لمزيد من مقالات منير عامر