العديد من الانظمة حول العالم التي اتخذت من الديمقراطية منهجا للحياة السياسية تعيش حاليا في أزمة نراها علي هيئة احتجاجات مستمرة لفئات المجتمع المختلفة تنظم خارج دائرة مؤسسات العمل الديمقراطي التقليدية مثل الأحزاب والنقابات. , ولعل أوضحها في اليونان واسبانيا وايطاليا وفرنسا والولاياتالمتحدة( حركة احتل وول ستريت). قد يعود ذلك لعدة عوامل وقوي مضادة للممارسة الديمقراطية السليمة أهمها الفجوة المتسعة بين الدخول والثروات, وتشابك المصالح بين أهل السياسة والمال. منذ أيام منظر الليبرالية الديمقراطية جون ستيوارت ميل في القرن التاسع عشر والجدل يدور حول الدور السياسي للطبقات الاجتماعية المختلفة وطبيعة الديمقراطية الاقتصادية, اما اليوم فهناك إدراك في محيط دائرة الاصلاح الديمقراطي بأهمية مزج ديمقراطية التمثيل من خلال الانتخابات ديمقراطية المشاركة, بهدف الارتقاء بجودة الأولي من خلال إسهام الثانية, ويبقي السؤال في كيفية دفع المواطنين للاسهام الايجابي في دائرة المشاركة الديمقراطية دون فوضي أو عشوائية, وهناك ثلاث دوائر لتحقيق هذا الهدف, الأولي: دائرة الاسرة والمدرسة, والثانية: دائرة المجتمع المدني, والثالثة: دائرة الدولة الديمقراطية, وكل هذه الدوائر تعضد بعضها بعضا, ويلزم تفعيلها في منظومة متوازنة ومتكاملة. فالقضاء علي الثقافة السلطوية داخل العائلة ومنظومة التعليم هي اللبنة الأولي لتكوين الفرد الديمقراطي, والمجتمع المدني هو الوسيط بين الحياة الخاصة للافراد وبين السياسة والاقتصاد من خلال الحركات الاجتماعية المتنوعة, ومنظمات العمل الأهلية والتطوعية والنوادي وشبكات الانشطة المختلفة, وكلها لها اسهام حيوي في الارتقاء بالممارسة الديمقراطية بشرط وضوح أهدافها ومواثيق الشرف الخاصة بها, وتشمل دائرة الدولة الديمقراطية. مصر الثورة لا يمكن ان تكتفي بالنموذج التقليدي لديمقراطية التمثيل التي تعبر عنها الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والمحلية كما لن يستمر ميدان التحرير وغيره من الميادين مصدرا للتعبير الديمقراطي الشعبي, وعليه يجب أن تدور حواراتنا ومن ثم توجهاتنا حول تفعيل الممارسة الديمقراطية الوليدة من خلال ثلاثة مسارات للديمقراطية, الأول: مسار ديمقراطية التشاور وذلك بالنقاش وتعدد الآراء في منتديات للحوار منظمة مسبقا بأهداف وتوقيتات محددة وبأفراد مؤهلين للتنسيق وللإعداد ولتوفير المعلومات حتي لا تصبح مضيعة للوقت وتفقد مصداقيتها وشعبيتها, ولمثل هذه المنتديات فوائد عدة, أهمها إضفاء الشرعية علي القرارات المهمة للدولة, والارتقاء بقيم الاستماع والنقاش في الموضوعات العامة, والإسهام في بناء الثقة بين المشاركين, وكل ذلك يؤدي الي الالتحام الديمقراطي بين السياسة والمجتمع. والمسار الثاني: يتمثل في ديمقراطية المشاركة, وهناك عدة مقترحات في هذا الشأن مثل خلايا التخطيط داخل المنشآت العامة والخاصة في المانيا, حيث يشارك فيها العاملون والادارة, ومثل نظام المحلفين في المحاكم في إنجلتراوالولاياتالمتحدة, ومثل الاجتماعات الافتراضية عبر شبكات الاتصال في المدن والقري والتي يشارك فيها المواطنون بآرائهم ومقترحاتهم, ومثل ايضا مؤتمرات التوافق الوطني علي مستوي الدولة, وتستهدف كل هذه الآليات مشاركة ذوي الدخل المحدود وذوي التعليم البسيط لدمجهم في عملية الممارسة الديمقراطية. الديمقراطية الاقتصادية هي المسار الثالث, فلا يمكن عزل السياسة والاقتصاد عن بعضهما بل يجب الربط بينهما, ولقد تم تعريف الديمقراطية الاقتصادية بدولة الرفاهة الاجتماعية في اوروبا الغربية, والدول الاسكاندينافية لتحقيق المساواة في الحقوق الاجتماعية والاقتصادية مثل حق التعليم وحق الرعاية الصحية وحق المسكن الملائم, وإعادة توزيع الثروة ورفع مستوي معيشة الفقراء من خلال آليات فعالة للضرائب وشبكات الضمان الاجتماعي; والارتقاء بمهارات وثقافة القوي العاملة لضمان مشاركتها الفعالة, ويمكن لمصر الاسترشاد في هذا الصدد بالقواعد التي صدرت من الاتحاد الاوروبي حول مشاركة العاملين في مؤسساتهم, وايضا بمثال ايطاليا التي أنشأت وزارة للفرص المتكافئة وبل أن قانون العمل في الولاياتالمتحدة يسمي قانون الفرص المتكافئة. ومن التحديات المهمة امام الممارسة الديمقراطية السليمة وجود إعلام مستقل عن الدولة وعن رأس المال فالاعلام له خمس مهام في تفعيل العمل الديمقراطي, الاولي: الاسهام في حرية الكلمة, والثانية: في نشر المعلومة والمعرفة والسماح بالفحص النقدي لها, والثالثة: هي في اعطاء الصوت للفئات المهمشة, وتتمحور الرابعة حول تشكيل قيم الانفتاح والاتصال والنقاش, اما الأخيرة فتتعلق بالارتقاء بالعقل العام للمجتمع. لقد ازدهرت ديمقراطية الحوار والمشاركة العابرة للحدود في السنوات العشرين الماضية من خلال المنتديات الاجتماعية العالمية المناهضة لمصالح الهيمنة المالية, ومن خلال الدور الذي لا يستهان به لمنظمات المجتمع المدني العالمي في مجالات البيئة والصحة والفن والثقافة, وعلي مصر الجديدة أن تكون حلقة فاعلة في الممارسة الديمقراطية الدولية تعطي لها وتأخذ منها ولقد كانت الثورة المصرية مثالا ألهم شعوب العالم ومجتمعاته المدنية, ويمكن لمصر ان تعطي مرة أخري نموذجا قويا يحتذي به في التغلب علي إشكالية الممارسة الديمقراطية, وتحقق بذلك الشكل الديمقراطي الذي يحلم به عامة الناس علي وجه الأرض. المزيد من مقالات شريف دولار