كان يوم جمعة.. حين ذهب سلطان بمسرحية «العيال كبرت» إلى المدرسة فلم يجد أحدا، ضرب لنفسه الجرس وشرح لنفسه الدرس ولم يفهم كالعادة فوقع فى مشادة مع نفسه وذهب للناظر مع نفسه وأعطى نفسه أسبوعا رفتا.. مشهد لا يقل سخرية عن استفتاءات الانفصال المندلعة من كردستان العراق مرورا بنيجيريا والكاميرون وحتى كاتالونيا الإسبانية إلى ما بعدها.. تحرك لا يقل عما أداه الراحل سعيد صالح سذاجة.. اجتمع جمع مع أنفسهم، واستفتوا أنفسهم على أن ينفصلوا، ثم أعطوا أنفسهم، من تلقاء أنفسهم، حق الانفصال.. لا فارق بين المشهدين سوى سخرية الفن وكآبة الواقع. عبر أيام الغضب المصرية من 25 وحتى 28 يناير 2011 وطيلة الفترة القاسية التى أعقبتها.. لم تتوقف بيانات وردود فعل زعماء أوروبا، كل على حدة، والاتحاد الأوروبى بكامل هيئته، عن «ضرورة وقف العنف» و«الإعراب عن بالغ القلق» و«الدعوة لتغيير النظام».. فما بال أوروبا تغض الطرف عن 900 مصاب سقطوا على يد الشرطة الإسبانية فى دولة هى أحد أركان الاتحاد ذاته ورابع اقتصاد فيه، مشاهد دماء وسحل واقتحام ملأت أرجاء الدنيا، فلم المواقف تغيرت؟ ولم اكتفت أوروبا بالقول صراحة «لا تعليق» وانحازت بوضوح للنظام دون الشعب؟. جان كلود يونكر رئيس المفوضية الأوروبية: هذا أمر داخلى إسبانى يحتاج لمعالجته وفقا للنظام الدستورى الإسباني الحق أن السياسة هى مقال يختلف باختلاف المقام.. والواقع أن كل دولة فى أوروبا تخشى انفصالا داخليا آتيا لا محالة بسقوط أول قطعة دومينو.. الباسك بعد كاتالونيا فى إسبانيا، بافاريا فى ألمانيا، اسكتلندا فى بريطانيا، كورسيكا فى فرنسا، أقاليم الشمال فى إيطاليا، جرينلاند فى الدنمارك.. تمضى دفقات جناح الفراشة من كردستان بالشرق بالأوسط إلى قلاع القارة الأوروبية الحصينة تفتتها ثم إلى نيجيريا والكاميرون بإفريقيا وولايات الجنوب ببرازيل أمريكا الجنوبية وصولا لكاليفورنيا بأمريكا الشمالية.. وغيرها.. عشرات الحركات الانفصالية والأحزاب الداعية له، سرطان عالمى جديد لن ينجو منه إلا من وعي. مارجريتيس شيناس المتحدث باسم الاتحاد الأوروبى عن عنف استفتاء كاتالونيا:«نحن فقط من يحدد توقيت وأجندة تصريحاتنا، ولا أحد غيرنا». والعجيب أن الداعى للانفصال إنما ينادى بالديمقراطية وهو أول منقلب عليها، فهو المبادر بفسخ العقد الاجتماعى مع دولته من طرف واحد.. وهو البادئ بانتهاك الدستور المقسوم عليه، وهو أول من اخترق السيادة وتجاوز الحدود.. وهاهى أوروبا تقف على أطراف أصابعها.. فوق ذلك المحك المؤلم.. بين حقوق الإنسان وحقوق الدولة.. تغض الطرف عن الانتهاكات، وتصم الآذان عن الاحتجاجات، وتغلق الفم عن الاعتقالات. المفوضية الأوروبية عن عنف يوم استفتاء كاتالونيا :«لا تعليق». والأعجب أن ينساق المنساقون وراء مصطلح الاستقلال.. لترويجه، علما أو دون علم ، بديلا عن الانفصال.. بينما هو انفصال عن دولة أم وليس استقلالا من محتل أجنبي.. وهو فعل يعدل فى خيانته إسقاط المرء جنسيته من جانب واحد.. كما هو حراك غير محمود بالمرة مهما تكن دوافعه.. يضرب الدولة فى أعز قواعد بنيانها، ويلقى بها فى هوة التشرذم والاقتتال ونزيف القوة. بينما كانت الشاشات تنقل على الهواء مباشرة مشاهد اقتحام الشرطة الإسبانية مراكز الاقتراع باستفتاء كاتالونيا المخالف للقانون والدماء المغطية لأوجه المشاركين فيه.. وفى ملعب «كامب نو» الذى طالما انطلقت منه صرخات جماهيره تلهم العالم كرة قدم جديدة.. مضت مباراة برشلونة الكتالونى وفريق لاس بالماس حزينة بلا جمهور.. ما أشبه يوم كامب نو المقفر ببارحة المدرجات المصرية الخاوية! سرعان ما سيدرك العرب والعالم خطورة الموجة الراهنة وسيبذلون قصارى الجهد لاحتوائها.. وحتى يحدث ذلك أو نمضى إلى مصير مظلم من التفتت والتمزق والصراعات.. فلتسقط كاتالونيا ويحيا برشلونة الإسباني.. ولتسقط كردستان ويحيا أكراد العراق. لمزيد من مقالات أحمد هواري