فى المقالين السابقين ناقشت الرؤية الطموح لتطوير التعليم المصرى التى يتبناها الدكتور طارق شوقى وزير التعليم.. واليوم أناقش قضية مجانية التعليم، وأنا أعلم أن الوزير لم يتصد لها فى تصريحاته الأخيرة لكن ثمة تلميحات واضحة بدت فيها كالتساؤل عن معضلة تدبير الموارد اللازمة للتطوير أو القول إنه لم يعد هناك شىء بالمجان أو أنه لم يتعود الإدلاء بتصريحات لمجرد إراحة الناس وهذا يعنى أن علينا أن نتحسب من الآن لطرح مسألة مجانية التعليم على بساط البحث، وبطبيعة الحال فإن هذه المجانية قائمة بضمان الدستور ولكننا نعلم أنه ليس كل ما فى الدستور قد تم تطبيقه كما أن الالتفاف على المجانية سهل وهو أمر حاصل بمعنى أن ثمة رسوماً بعضها ليس بالقليل تُدفع فى حالات معينة كأقسام اللغات والدراسات العليا فى الجامعات، وهكذا فإننا يجب أن نكون مستعدين من الآن لمناقشة المسألة مناقشة موضوعية شاملة للأبعاد المختلفة للقضية . وثمة ملاحظات أساسية تجب الإشارة إليها بداية فالمجانية حق دستورى كما سبقت الإشارة وإن لم يكن متحققاً بالضرورة، والملاحظة الثانية أن خصوم ثورة يوليو درجوا على اعتبار المجانية واحداً من آثامها وهو أمر غير صحيح فإقرار المجانية يرجع الفضل فيه للحكومة الوفدية قبل الثورة وفضل الثورة أنها عممت المجانية بمعنى أنها جعلتها شاملة لمراحل التعليم كافة، ويجب أن يكون واضحاً أن المجانية ليست «توجهاً اجتماعياً» وإنما تطبيق تلجأ إليه الدول الرشيدة كى تضمن الاستفادة من قدرات أبنائها كافة، بغض النظر عن إمكاناتهم المالية، فكأن التعليم المجانى استثمار ذو عائد آجل يعطى مردوداً يفوق بكثير رأس المال الذى استُثمر فيه، وأذكر أننى كنت فى زيارة لألمانيا الموحدة بعد وقت قصير من إعادة توحيدها، وفى لقاء مع وزير التعليم العالى سألته: كيف حللتم مشكلة الانتقال من التعليم الجامعى المجانى فى ألمانياالشرقية إلى التعليم المكلف فى ألمانيا الغربية؟ فنظر إلى مندهشاً ولم يُزد على قوله: التعليم فى الشطر الغربى كان مجانياً أيضاً، ولا أقصد بطبيعة الحال أن التعليم مجانى فى كل مكان وإنما أن مجانية التعليم لا علاقة لها بالضرورة بالتوجهات السياسية للنظم الحاكمة وإنما برؤيتها لكيفية استثمار قوتها البشرية، وفى مصر يعلم الجميع أن المجانية قد فتحت الباب أمام أبنائها كافة لتلقى العلم وكانت الثمرة لافتة ما بين تكوين أجيال من المتخصصين الذين يمثلون مكوناً مهماً من مكونات قوة مصر الناعمة المنتشرة فى جميع أنحاء الوطن العربى وخارجه ناهيك عن القدرات المتفوقة ذات المكانة العالمية الرفيعة على الرغم من المشكلات التى نعرفها جميعاً للنظام التعليمى المصرى . لكن المجانية كما سبقت الإشارة ليست متحققة على أرض الواقع، إذ إنه بغض النظر عن أن مؤسسات التعليم الرسمى كافة تفرض رسوماً رمزية فإن ثمة رسوماً حقيقية تُفرض فى حالات أخرى كما فى أقسام اللغات فى الجامعات وكذلك فى الدراسات العليا، وإذا افترضنا أن أقسام اللغات تضيف إلى التعليم باللغة العربية مهارة إتقان لغة أجنبية وأن الدراسات العليا مرحلة متقدمة من التعليم وهذا بديهى، فإن معنى هذا أن من يدفع أكثر يحصل على خدمة أفضل وهذا مرفوض من منطلق مبدأ المساواة وإتاحة الفرصة المتكافئة للجميع، ويُضاف إلى هذا بطبيعة الحال المكون الخاص فى التعليم المصرى فى مراحله كافة وقد أضحى مكوناً مهماً برسوم لم يعد معظمها فى متناول الطبقة المتوسطة بكل شرائحها وهو ما يعنى أيضاً مزيداً من «الانحياز الاجتماعى» للنظام التعليمى، فما العمل للخروج من هذه المعضلة المترتبة على أن الدولة تمر بظروف اقتصادية ضاغطة لا تمكنها من تأمين المجانية الشاملة وبالمستوى المطلوب إذا كنا نريد للتعليم أن يلعب دوره الطبيعى فى رقى الوطن؟ سوف يتعارض التسليم بالمساس بالمجانية بطبيعة الحال مع الدستور ولكن هذا المساس يحدث فى الواقع الحالى على نطاق واسع وهو من ثم يهدر طاقات بشرية يمكن أن تلعب دوراً مهماً فى الانطلاق إلى الآفاق الرحبة للتنمية والتقدم، والحقيقة أن هذه المعضلة تحتاج حواراً موضوعياً واسعاً دون حساسيات فالنظام التعليمى الحالى غير كفء على الإطلاق وصحيح أن المسألة لا تتوقف على الموارد وحدها فالأهم هو الرؤية لكن الموارد شرط ضرورى لتنفيذ الرؤية السليمة وهى ليست حاليا فى متناول الدولة فأين المخرج؟ يجب أولاً ألا يكون هناك تنازل عن مجانية التعليم ولكن لا بأس من أن يدور الحوار حول اترشيد اجتماعىب للمجانية بسبب الظروف القاهرة، وقد كانت للدكتور جابر نصار رئيس جامعة القاهرة السابق أفكار مهمة فى هذا الصدد فكان رأيه أنه ليس من المعقول أن يدفع طالب عشرات الألوف على الأقل ليحصل على الشهادة الثانوية ثم يدفع ملاليم فى المرحلة الجامعية بمعنى إمكان فرض رسوم على من تثبت قدرته المالية، كذلك فقد يكون هناك تفكير فى فرض رسوم على الرسوب أو تدرج المجانية بحسب التقديرات مع عدم التنازل فى كل الأحوال على ألا يُحرم طالب من التعليم لسبب مالى، وقد كانت لى تجربة فى معهد البحوث والدراسات العربية التابع لمنظومة الجامعة العربية وكان طلابه يحصلون أصلاً على منح سخية للدراسة، فلما نشأت مشكلة التمويل فى هذه المنظومة اضطررت إلى فرض رسوم دراسية رمزية تتناسب مع المستوى العلمى للطالب، ولم يحدث أن حُرم طالب واحد من الدراسة لعدم القدرة المالية وحققت التجربة نجاحاً باهراً لا مجال لسرد تفاصيله فى هذا الحيز ودروس التجربة متاحة لمن يريد، وأعلم أن هذه الأفكار لابد أن لها من يعارضها أو يؤيدها ولذلك فالحوار ضرورى للخروج الآمن تعليمياً واجتماعياً من المأزق . لمزيد من مقالات د. أحمد يوسف أحمد