محافظ أسيوط: حصاد 103 آلاف فدان قمح وتوريد 63 ألف طن للشون والصوامع حتى الآن    محافظ قنا يتابع سير العمل بمزرعة النخيل والصوبات الزراعية    محافظ المنيا يوجه بتنظيم حملات لتطهير الترع والمجاري المائية    النائب محمد الرشيدي: تهديدات الاحتلال الإسرائيلي باجتياح رفح ستسفر عن نتائج كارثية    عزت الرشق: أي عملية عسكرية في رفح ستضع المفاوضات في مهب الريح    كريم شحاتة يتقدم باستقالته من منصبه مع فريق البنك الأهلي    نجم ميلان يحسم موقفه من الانتقال للدوري السعودي    محافظ مطروح يشهد فعاليات النسخة الأخيرة لبرنامج شباب المحافظات الحدودية    بالصور - تتويج زياد السيسي بالذهبية التاريخية في بطولة الجائزة الكبرى للسلاح    بالصور.. تهشم سيارة مطرب المهرجانات عصام صاصا في حادث اصطدام شاب ووفاته أعلى دائري المنيب    مصرع شخصين وإصابة 3 في حادث سيارة ملاكي ودراجة نارية بالوادي الجديد    "فاصل من اللحظات اللذيذة" يعود مرة أخرى للارتفاع ويحقق مليون و500 ألف    بعد إصابته بالسرطان.. نانسي عجرم توجه رسالة ل محمد عبده    المستشار حامد شعبان سليم يكتب :الرسالة رقم [16]بنى 000 إن كنت تريدها فاطلبها 00!    باحث فلسطيني: صواريخ حماس على كرم أبو سالم عجّلت بعملية رفح الفلسطينية    أحمد إمام يفوز بعضوية مجلس إدارة الاتحاد المصري لتمويل المشاريع المتوسطة والصغيرة    التعليم تعلن تعليمات عقد الامتحانات الإلكترونية للصفين الأول والثاني الثانوي    مصرع شخصين وإصابة 3 آخرين في حادث بالوادي الجديد    وزير الأوقاف يجتمع بمديري المديريات ويوجه بمتابعة جميع الأنشطة الدعوية والقرآنية    الري تفتح الحدائق والمزارات أمام المواطنين في احتفالات شم النسيم    نزوح أكثر من ألف أسرة بسبب الفيضانات في أفغانستان    6 مشروبات مهمة يجب تناولها عقب وجبة الرنجة والفسيخ في شم النسيم    ختام فعاليات المؤتمر الرابع لجراحة العظام بطب قنا    معهد أمراض العيون: استقبال 31 ألف مريض وإجراء 7955 عملية خلال العام الماضي    مصر تحقق الميدالية الذهبية فى بطولة الجائزة الكبرى للسيف بكوريا    «الصحة»: إجراء 4095 عملية رمد متنوعة ضمن مبادرة إنهاء قوائم الانتظار    متى يُغلق باب تلقي طلبات التصالح في مخالفات البناء؟ القانون يجيب    متروكة ومتهالكة في الشوارع.. رفع 37 سيارة ودراجة نارية بالقاهرة والجيزة    أسهلها الدفع أونلاين.. تعرف على طرق حجز تذاكر القطارات لكافة المحافظات (تفاصيل)    على مائدة إفطار.. البابا تواضروس يلتقي أحبار الكنيسة في دير السريان (صور)    5 ملفات تصدرت زيارة وفد العاملين بالنيابات والمحاكم إلى أنقرة    إيرادات علي ربيع تتراجع في دور العرض.. تعرف على إيرادات فيلم ع الماشي    "كبير عائلة ياسين مع السلامة".. رانيا محمود ياسين تنعى شقيق والدها    في ذكرى ميلادها.. محطات فنية بحياة ماجدة الصباحي (فيديو)    لماذا يتناول المصريون السمك المملح والبصل في شم النسيم؟.. أسباب أحدها عقائدي    مفاجأة.. فيلم نادر للفنان عمر الشريف في مهرجان الغردقة لسينما الشباب    وسيم السيسي: قصة انشقاق البحر الأحمر المنسوبة لسيدنا موسى غير صحيحة    زيادة قوائم المُحكمين.. تحديث النظام الإلكتروني لترقية أعضاء هيئة التدريس    طارق العشرى يُخطط لمفاجأة الأهلي في مواجهة الثلاثاء    جامعة أسيوط تنظيم أول مسابقة للتحكيم الصوري باللغة الإنجليزية على مستوى جامعات الصعيد (AUMT) 2024    ماكرون يطالب نتنياهو بعدم اقتحام رفح الفلسطينية وإدخال المساعدات إلى غزة    "دور المرأة في بناء الوعي".. موعد ومحاور المؤتمر الدول الأول للواعظات    هل أنت مدمن سكريات؟- 7 مشروبات تساعدك على التعافي    ضبط 156 كيلو لحوم وأسماك غير صالحة للاستهلاك الآدمي بالمنيا    التعليم تختتم بطولة الجمهورية للمدارس للألعاب الجماعية    إزالة 164 إعلان مخالف وتقنين 58 آخرين بكفر الشيخ    موعد عيد الأضحى لعام 2024: تحديدات الفلك والأهمية الدينية    فشل في حمايتنا.. متظاهر يطالب باستقالة نتنياهو خلال مراسم إكليل المحرقة| فيديو    مفاجأة عاجلة.. الأهلي يتفق مع النجم التونسي على الرحيل بنهاية الموسم الجاري    ولو بكلمة أو نظرة.. الإفتاء: السخرية من الغير والإيذاء محرّم شرعًا    قصف روسي على أوكرانيا يتسبب في انقطاع الكهرباء عن سومي وخاركيف    أول تعليق من الأزهر على تشكيل مؤسسة تكوين الفكر العربي    بالصور.. الأمطار تتساقط على كفر الشيخ في ليلة شم النسيم    "احنا مش بتوع كونفدرالية".. ميدو يفتح النار على جوميز ويطالبه بارتداء قناع السويسري    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 6-5-2024    قصر في الجنة لمن واظب على النوافل.. اعرف شروط الحصول على هذا الجزاء العظيم    البحوث الفلكية تكشف موعد غرة شهر ذي القعدة    قادة الدول الإسلامية يدعون العالم لوقف الإبادة ضد الفلسطينيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بحثا عن العدل التربوى..؟!
عجلات الفقر القاسية تدهس الآلاف من زهرات التفوق رغم مجانية التعليم

لماذا هذه القضية؟ فى العام الدراسى 48/1949، عندما كنت فى الصف الثانى الابتدائى، كان هناك تنافس كبير بينى وبين زميل آخر على إحراز المركز الأول فى اختبارات «الفترة»، حيث استطاع هذا الزميل أن يكسبه فى النصف الأول من العام .
فلما عدنا بعد عطلة نصف السنة، لم أجد زميلنا بيننا، وعندما سألت عنه، قيل لى أن أباه كان بائع لبن فى أقساط كبيرة على دراجة يلف بها على البيوت، وأن شيخوخته، وما صاحبها من مرض أعجزاه عن الاستمرار ، فطلب من ابنه أن يكتفى بما تعلم، حيث لم يكن يحتاج إلا إلى معرفة القراءة والكتابة والعمليات الحسابية الأربع المعروفة.
بعقلية الطفولة المتمركزة حول الذات، شعرت بارتياح أن انزاح من أمامى منافسى الشرس، وبعد سنوات غير قليلة، عندما بدأ الوعى بالوطن يتقدم على الوعى بالذات، أحسست بحزن شديد، حيث أدركت كيف دهست عجلات الفقر القاسية زهرة تفوق، وبذرة اجتهاد، بحيث لم ينفع التفوق ، ولم تفد جهود التحصيل والنمو العلمى.
وبدأت الحقيقة المرة تصرخ فى أذنى: ترى، كم من آلاف مثل صاحبنا هذا دهسهم الفقر، وكان يمكن أن يستمروا فيقدموا للوطن وللمجتمع أزهى الثمرات العلمية والعملية، مما يشكل طاقة أضخم وأقوى فى الدفع به إلى آفاق علا من التقدم والنهضة؟!
وتأبى الظروف إلا أن تعيد أمامى مشهدا مماثلا، فى العام 60/1961، حيث كنت مدرسا بمدرسة إعدادية بطامية بالفيوم، وكان لدينا طالب فى الصف الثانى، حاز على إعجاب كل المدرسين، من قوة تفوقه، إلى درجة أن بعض المدرسين صارحونى، أنهم أصبحوا لا يكملون قراءة ورقة إجابته فى الشهور الأخيرة من فرط ما أثبت لهم من استحقاق الثقة فى التفوق.
وأثناء حضورنا طابور الصباح فى أحد الأيام، فوجئنا بالطالب يسقط مغشيا عليه، وإذا بالاستقصاء يصفعنا بحقيقة لم نكن نعلمها: أن الطالب يجئ سائرا على قدميه من قرية تبعد ما لا يقل عن ثلاثة كيلومترات، وأنه عادة ما يجئ من غير تناول فطور الصباح، لأن أسرته لم تكن تملك مثل هذا الحد الأدنى، وأن سقوطه كان نتيجة هزال وضعف صحة، نتيجة شدة فقر، فاكتفى بما تعلمه حتى الصف الثانى، وسارع بالالتحاق بأحد الأعمال الريفية البسيطة...
حدث هذا رغم أن التعليم فى أواخر الأربعينيات كان مجانيا فى المرحلة الابتدائية، وكان كذلك فى المرحلة الإعدادية فى الستينيات، مما يوحى بأن ديمقراطية التعليم متوافرة، حيث توفره للفقراء بغير رسوم، لكن هاتين الواقعتين، وبطبيعة الحال هناك آلاف غيرهما، تؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أن المسألة لا تقف عند حد مجانية التعليم، ولكنها تمتد إلى ما هو أبعد من ذلك: إلى شروط أساسية لابد من توافرها من العدل الاجتماعى.
الخبرة المصرية فى ديمقراطية التعليم :
ومنذ عدة عقود تنبه كثيرون من رجال الفكر التربوى وأقطاب الثقافة إلى هذين المبدئين...
بل إننا لنؤكد أن هذان المبدآن توافرا عبر قرون طويلة فى التعليم المصرى، فغنى عن البيان أن التعليم فى معظم هذه القرون كان يتم فى الأزهر ومعاهده ، وأنه لم يقف عند حد تقديمه مجانا بل زاد على ذلك « بعطايا» كان الطالب يُمنحها، مما عرف ب «الجراية»..
وعندما أقام محمد على تعليما حديثا على النمط الغربى، لم نجد أبدا تفرقة بين ابناء الفقراء وأبناء الأغنياء، بل غلب على من دخل المدارس أن يكونوا من أبناء الفقراء، وأوساط الناس.
بل إن استنارة الوعى التربوى الاجتماعى فى مصر، فى زمن مبكر للغاية، مثل عام 1867، ومن خلال وثائق أول مجلس نيابى فى الشرق» مجلس شورى النواب»، نجد هذا الوعى المذهل بأن الزمن الماضى كان معيار التفاضل فيه بين الناس هو الوضع المالى، والنسب، لكنه أصبح يتطلب أن يكون هذا المعيار هو التفاضل وفق التحصيل المعرفى، ومن هنا جاء فى قرارات المجلس، وفقا للوثائق التى نشرها الدكتور أحمد عزت عبد الكريم فى رسالته للدكتوراه عن التعليم ، بعد عهد محمد على، إلى أول الاحتلال البريطانى سنة 1882:
«...ومن المعلوم للجميع أنه من الزمن الأول فى أغلب البلاد ، النسب والحسب، وبعض الخصايل المحسوسة كانت كافية لشهرة الإنسان فى ملته وبين أمثاله، وكان يوصل بهم إلى المناصب العالية والمهمة، وأما فى وقتنا هذا، الخصايل المعنوية المقتبسة من تحصيل العلوم والفنون النافعة هى التى تعلى شأن الإنسان وتميزه بين أقرانه، وتشرف حسبه ونسبه ،وتجعله نافعا لوطنه ، وفى كل مملكة متمدنة، رجال دولتها والمشتغلون لصيانة عزها ورفاهيتها، ينتخبون من بين هؤلاء كفؤ لخدمة الأوطان خدمة يعلو بها شأنها وترتقى بها مدنيتها وفخارها، فالسعى فى هذا الأمر مشكور،وعند الحكومة مستحسن...» .
ثم نجد البصر فى ديمقراطية التعليم يمتد ليعى أن المسألة لا تقتصر على نبذ التمييز بين التلاميذ بناء على الفقر والغنى، بل تمتد إلى نبذ التمييز كذلك بسبب المعتقد الدينى، وهكذا يجئ فى المصدر السابق نفسه عن المدارس التى تعهدت الدولة بإنشائها:
« ...الدخول فى تلك المدارس ، يكون من عموم الناس بالرغبة من دون استثنى: مسلمون وأقباط، غنى أو فقير، وقبولهم يكون بمعرفة من يتخصص لذلك من الحكومة، بشرط يكون لغاية سن 14. ومن حيث أولاد الإسلام والأقباط يلزم تعليمهم أولا ما يخص ديانتى كل واحد منهم، فيلزم تخصيص محل مخصص لأولاد الأقباط واستحضار من يلزم من القسس من طرف بطرك الأقباط لتعليمهم ما يلزم ابتداء فى الديانة، أما تعليمهم العلوم السايرة، يكون عموما، أى إسلام وأقباط، مع بعضهم ، حيث جميعهم أولاد الوطن..».
وأول مرة تقررت فيها مصروفات على الطلاب، كانت فى عهد الاحتلال البريطانى لمصر، عام 1885، لا من منطلق أنه ينتمى إلى النزعة الرأسمالية، وإنما لهدف آخر، هو حرمان جميع أبناء الفقراء، بل ومتوسطى الحال من التنور عن طريق التعليم، وحصره فى أبناء الأغنياء الذين حرص كثير مهم على ربط مصالحه بمصالح أصحاب الاحتلال!!
وكان من الضرورى أن يجد هذا الأمر الجديد على التعليم من يبرره ويفلسفه كالعادة، فتقرير المعارف الثانى عن أحوال التعليم سنة 1886 يبرز مدى ضيق الأهالى بفرض المصروفات وينعى عليهم ذلك: « وفاتهم أن إلزامهم بالصرف على أولادهم هو من غير شك عائد بالخير والمنفعة عليهم، إذ فى هذه الحالة يكونون ملزمين بمراقبة أحوال أبنائهم مراقبة دائمة، وحثهم على الدأب والاجتهاد حتى لا يضيع ما ينفقونه من المال هدرا، أما إذا كان التعليم كله على نفقة الحكومة، فإنهم فى الغالب يهملون أولادهم ولا يهتمون باستقصاء أحوالهم ومراقبة سيرهم وسلوكهم لكونهم لا يغرمون شيئا من مالهم «.
وإلى نفس الأسباب استند يعقوب أرتبن، قطب التعليم فى هذه الفترة فى كتابه( القول التام فى التعليم العام، ص 46) ، إلى درجة وصفه للمجانية بأنها: « شئ مخالف للذوق السليم ومناف للعدالة»، وأصبحت خطة الوزارة هى تقليل عدد من يتعلمون مجانا. « فإن كثرة هذا العدد قد حولت المدارس عن حقيقتها وجعلتها أشبه بمأوى .. «.
ويكفينا ما كان قد ذكره كرومر من قبل فى تقريره عن سنة 1902 حيث قال بالحرف الواحد: « إن المساعى مبذولة لحصر عدد التلاميذ الذين يدخلون المدارس الابتدائية برفع أجرة التعليم فيها» . والهدف من ذلك هو أن تتحول الجمهرة الكبرى إلى تعليم الكتاتيب الذى لم تر سلطات الاحتلال خطرا من انتشاره.
كذلك لم تتورع وزارة المعارف عن الاعتراف بأن فرض المصروفات ورفعها يؤدى إلى أن ينحصر التعليم فى طائفة قليلة من بين القادرين على دفع المال اللازم من الأغنياء وبعض أفراد الطبقة المتوسطة وتعجيز الطبقات الفقيرة عن ولوج هذا التعليم الذى يؤدى بخريجيه إلى احتلال وظائف الدولة المختلفة. ولما كان من غير المرغوب فيه أن يحتل مثل هذه الوظائف أفراد من الفقراء، فقد كان ضروريا أن توالى الوزارة زيادة المصروفات، ومن هنا نجد أن اللجنة العلمية الإدارية سنة 1901 (محاضر جلسات اللجنة العلمية الإدارية: 13/6/1901) تذهب إلى أن قلة المصروفات كانت تدعو كثيرا من العائلات غير المتيسرة لإدخال أولادهم بها أملا فى حصولهم فيما بعد على وظائف الحكومة، «ولملافاة هذه المضار الجسيمة» – على حد تعبير وزارة المعارف – رأت اللجنة العلمية الإدارية تعديل شروط القبول بالمدارس الابتدائية: « بحيث لا يقبل فيها إلا الطلبة الذين تسمح لهم حالتهم بالاستمرار على تلقى التعليم الثانوى والعالى بقدر الإمكان ويكونون من طبقة من الأهالى الراقية نوعا تحول تربيتهم الأولية دون الإضرار بمن يختلط بهم من التلاميذ. ولا خلاف فى أن الطريقة العملية المؤدية لهذه الغاية إنما هى زيادة فئة المصروفات المدرسية». والحالة التى تشير إليها اللجنة التى تشترطها لمدى قدرة الطلاب للاستمرار على تلقى التعليم الثانوى والعالى ليست هى الحالة العلمية ولكنها الحالة المالية ...
ومن أعمق ما طرحه طه حسين من أفكار حقا ، فكرة كثيرا ما ملأ عدد من أستاذة التربية فى مصر منذ أول الثمانينيات أحاديث عنها ، باعتبارها فكرة جديدة وفتحا علميا رائعا ، وهى تلك التى بشرت بها المدرسة النقدية فى الاجتماع والتربية ببعض البلدان الغربية ، وعلى الأخص فى الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا، بينما نجدها صريحة واضحة فى هذه الكلمات التى كتبها طه حسين فى مجلة « مسامرات الجيب» بعنوان ( الجيل الضائع ، 28/12/1947 ) ، فبعد أن ساق عددا من مظاهر التقصير والخلل فى وزارة المعارف ، انتهى إلى أن المسألة لا تكمن فى وزارة المعارف وإنما فى النظام الاجتماعى القائم ! إنذار واضح يسبق قيام ثورة يوليو من مفكر كان له من البصيرة بحيث أطلق هذه الصيحة التحذيرية : « إنما المسؤول عن هذا كله هو النظام الاجتماعى الذى يجب أن يمسه الإصلاح من جميع جوانبه ، والنظام السياسى الذى يجب أن يتغير من جميع جوانبه أيضا « !
وهنا برز ما اصطلح عليه كثير من المفكرين التربويين وهو « ديمقراطية التعليم « ، على أساس أن ينال كل مواطن حقه فى التعليم بغض النظر عن قيود الجنس والنوع والمال والمذهب والعقيدة واللون ، إلى غير هذا وذاك من فوارق لا ذنب للفرد فيها .
وقد بُنى هذا المبدأ على تصور نشأ فى دولة أثينا اليونانية القديمة ، تطبيقا لمبدأ الديمقراطية الذى بدأ أولا فى عالم السياسة بزعم أنه يعنى حكم الشعب بالشعب وللشعب.
والمتتبع للتاريخ الغربى منذ العصور الوسطى ، لن يخطئ فى تبين كيف أنه عكس نزعة « تمييزية « بين البشر ، تمثلت فى «رجال دين» يرون أنهم وحدهم الذين يملكون الفهم والتقدير والغفران ، وفى «رجال سياسة وحرب» راحوا يغزون شعوبا أخرى؛ يدمرون ويستعمرون ويستحوزون ويستغلون ملايين البشر ليصُب العائد كله فى بلادهم هم ، فكأنه هو نفسه المنطق الأثينى القديم ، فإذا كانت أثينا قد ضمت أكثرية من العبيد ليس لهم أى حق ، وقلة من الأحرار لهم كل الحق ، فقد نُظر إلى الشعوب غير الأوربية باعتبارها عبيدا ، وإلى الأوربيين بأنهم هم الأحرار .
حتى عندما راح « كارل ماركس « يبشر فى القرن التاسع عشر بفكر ، زعم فيه أنه يحرر البشرية من صنوف الاستغلال والقهر ، كان بديله « طبقة « عاملة ، لم يتورع عن الإقرار بديكتاتوريتها ، وشن حرب لا هوادة فيها على سائر الشرائح الاجتماعية الأخرى!
وكانت النازية ، صورة أخرى من صور التمييز والقهر لغير الآريين ، على الرغم من صعوبة وجود النقاء العرقى بين أغلب الناس .
وفى بعض المجتمعات الغربية المعاصرة ، قد يمكن القول بأن مواطنيها يتمتعون بالمثل الديمقراطية ، ولكن نظرة بسيطة إلى كيفية تعامل هذه المجتمعات مع غيرها من المجتمعات - وخاصة تلك المغلوبة على أمرها – تؤكدان لنا بوضوح استمرار المنطق الأثنيى فى التمييز والاستثناء والإقصاء .
ومن هنا فلم تكن صورة الديمقراطية هى الطريق المستقيم لتحقيق الحلم البشرى بأن يتحقق العدل بين الناس !
تكافوء الفرص التعليمية : هل يحقق العدل ؟
فى أواخر الحرب العالمية الثانية، ظهر فى بريطانيا تقرير يستهدف تطوير التعليم الإنجليزى وإصلاحه ، فى أعقاب الدمار الرهيب الذى أحدثته ست سنوات من الحرب، ردد فكرة :«تكافؤ الفرص التعليمية» ، باعتبار ذلك تطويرا لمبدأ ديمقراطية التعليم ؛ وفى محاولة لإتاحة الفرص للجميع للتمتع بالتعليم .
وكان لهذا المبدأ صداه فى بلدان كثيرة، منها :مصر، حيث كان أحمد نجيب الهلالى يتولى وزارة المعارف ، وبمعاونة مستشاره الفنى المفكر المعروف الدكتور طه حسين ، فكان أن صدر تقرير مماثل فى مصر يردد الفكرة نفسها، وكان هذا منطلقا لانتشار المبدأ ، ودوران كثير من البحوث والدراسات حوله.
كان هذا المبدأ يوحى بالثقة ؛ حيث تصور أنه سيعالج قصور مصطلح ديمقراطية التعليم ، لكن هذا لم يحدث مع الأسف الشديد ؛ ذلك أن تكافؤ الفرص التعليمية قام على عدد من الأركان:
• تكافؤ عند الالتحاق ، ولعل مجانية التعليم ، كانت هى الآلية التى تمحو أثر الاختلاف العرقى والمذهبى والاجتماعى والمالى بين التلاميذ .
• وتكافؤ أثناء قضاء فترة التعلم ، من حيث المعاملة وطرق التعليم والمشاركة .
• وتكافؤ عند التخرج ، بحيث لا يحظى بعض التلاميذ بتكوين يفضله عن آخر .
• وتكافؤ عند الالتحاق بعمل .
ويكون المعول فى كل هذا هو: « الجدارة « ، أى :مقدار الجهد التعليمى المبذول من قبل الطالب فى التحصيل والتكَوُّن 0
وكذلك فإن « التكافؤ « يحمل معنى « المساواة « ، لكن المساواة نفسها لا تؤدى دائما إلى العدل ، وآية ذلك :ما نراه أثناء التدريس داخل قاعات التعليم ، فالمعلم يحرص على أن يُدَرِّس للجميع بأسلوب واحد ، بينما هم لا يتماثلون فى القدرة على الفهم والاستيعاب ، فمنهم الذى يمكن أن يلتقط المعانى بسرعة ويستوعبها ، ومنهم ما يصعب عليه ذلك ، ومنهم من يتوسط ، فكأن هناك فئتين تُظلمان ، الفئة المتميزة ، حيث يمكن أن تحصل ما يتم تدريسه فى حصتين ، فى حصة واحدة ، وكذلك الفئة الضعيفة ، حيث يحدث العكس ، فقد تحتاج إلى حصتين كى تستوعب ما يتم تدريسه فى حصة واحدة .
وفى التقرير الذى كتبته عام 1972 لجنة برئاسة إدجار فور الذى كان رئيسا من قبل لوزراء فرنسا يشير إلى جبهة معارضة لفكرة التساوى بغير ضوابط (إيدجار فور، تعلم لتكون ،1972: 123 ) ، قائلا :إن الاكتفاء بالمساواة فى حق التعلم المدرسى يؤدى فى الواقع إلى عدم المساواة من حيث النتائج المدرسية، إذا لم تؤخذ بعين الاعتبار العوامل الأخرى ، وهذا ما دعا لجنة بلاودن Plawden في بريطانيا إلى أن تتبنى مبدأ محاربة التمييز ، ومراعاة حالة المحرومين لأن ذلك أقرب إلى المفهوم الصحيح لتكافؤ الفرص .
وإذا نظرنا إلى المساواة من هذه الزاوية ، فإن هدف التربية هو: تحقيق المساواة بين المتخرجين ، لا بين المسجلين ( كمجموعات بطبيعة الحال ) لا كأفراد ..إن النتيجة الجزئية التى استخلصها عالم الاجتماع النقدى كولمان Colman ، رغم أنها موضوع للأخذ والرد ، إلا أنها لا تخلو من شىء من الصحة ، فهو يقول إن سبب ضعف النتائج المدرسية لا يرجع إلى عدم التساوى فى الوسائل التربوية التى تستفيد منها كل فئة بقدر ما يرجع إلى الجو السائد بين الطلبة فى تعليمهم . وبعبارة أخرى ، فإن العامل الرئيسى الذى يؤثر فى النتائج المدرسية هو الجو الاجتماعى السائد فى المدرسة المعنية .
والأسباب فى هذه الحالة واضحة فى أغلب الأحيان ، فالتلاميذ الفقراء فى بعض البلدان مضطرون إلى الانفصال عن المدرسة قبل الأوان بحثا عن عمل ،ومن الطلاب من تضطره ظروف الحياة القاسية للجمع بين العمل والدراسة ، وقد تجد منهم من لا تتوافر فى بيوتهم الظروف الصحية الملائمة والتغذية الكافية ،كما أن بعض البيوت مكتظة بالسكان . وقد تركزت الدراسات فى الأعوام الأخيرة على عوامل أخرى مهمة ، وإن لم تكن بمثل وضوح العوامل السابقة ، ونعنى بها: الوسط الثقافى ، وخاصة الوسط اللغوى ؛ الذى ينشأ فيه الطفل ويحصل منه على مستوى لا بأس به من المعرفة المسبقة التى سوف تنفعه لا محالة عندما ينخرط فى المدرسة ( إيدجار فور،1972 : 124 ) 0
فالنظام التربوى المعمول به يكافئ القوى والمحظوظ والحريص على تطبيق التعليمات . ومن جهة أخرى ، نرى النظام نفسه يوبخ ويعاقب من لم يساعده حظه ولم يتعود على السرعة ، ولم يساير مقتضيات البيئة ، ولم يعمل بما تحكم به الجماعة ويرضى عنه معظم الناس ( إيدجار فور،1972: 128 ) 0
وهكذا لا ينبغى أن يُعلق الجرس فى رقبة التعليم وحده، ومسئوليه فى كل الأحوال، وقد عبرت الثقافة الشعبية الاجتماعية عن هذا خير تعبير بقولها « اطبخى يا جارية...كلّف يا سيدى»، على أن نفهم التكلفة هنا لا بمعناها المالى وحده، بقدر ما هى كذلك جملة المقومات الأساسية اللازمة لتوفير بيئة تعليمية قادرة على القيام بما هو مأمول منها.
جدل عقيم حول مجانية التعليم:
ومن حين لآخر ترتفع أصوات ملقية المسئولية فى الكثير من مشكلات التعليم وسلبياته على مجانية التعليم، وهو أمر مناف كثيرا للحقيقة، كيف؟
فى مؤتمر عقده منتدى الفكر العربى فى عمان، فى أوائل عام 1990، حيث كان الدكتور سعد الدين إبراهيم مسئولا عنه، حُفرت فى ذاكرتى فكرة تحدث فيها الدكتور حازم الببلاوى فى كلمته بالمؤتمر، تشير إلى حقيقة المجانية، خلاصتها فى هذه القضية:
أن التعليم يمكن النظر إليه باعتباره سلعة بالمعنى الواسع( أو خدمة كما نقول) تتكلف بالضرورة إنفاقا كبيرا، فمن يدفع هذه النفقات؟
للإجابة على هذا السؤال، فلننظر فى الأقيسة التالية:
فهناك سلع عائدها يعود على الشخص وحده ، مثل ملابسه، وطعامه وشرابه وسكنه الخاص، ومن هنا فإنه يكون هو المسئول عن دفع نفقاتها...
وهناك سلعة تعود فوائدها على الوطن ككل، مثل الخدمة العسكرية، ومن هنا يتكفل الوطن، ممثلا فى الدولة، بدفع نفقاتها من ملبس ومأكل ومبيت،وعلاج...إلخ.
أما بالنسبة للتعليم، فنجد أنه سلعة تجمع بين الأمرين:
فالفرد المتعلم، من المرجح أن يحصل على دخل أعلى، ويحصل من الناس على تقدير اجتماعى أفضل، ويستطيع الوصول إلى مواقع عمل عالية، فضلا عن تغيرات أفضل على المستوى الصحى والسكن، وما سار على هذا الطريق..
لكن المجتمع نفسه ككل، يحصل على فوائد ومزايا، ربما بشكل غير مباشر، فارتفاع مستوى المعرفة فى المجتمع، وتزايد الوعى الثقافى، وتحسن المستوى الصحى، وما يجرى هذا المجرى، كل هذا يصب فى النهاية فى ارتفاع المنسوب الحضارى للمجتمع.
نتيجة لهذا لابد من عملية تشارك بين المجتمع وبين الفرد فى تحمل تكلفة التعليم..
إن كثيرين يتصورون أن المسألة تنحصر فى دفع الرسوم المطلوبة للمدرسة أو الجامعة، ولكن تكلفة التعليم، لها مظاهر متعددة، منها : المواصلات، وأدوات التعليم، من كتب ودفاتر وأقلام وأجهزة تعليم وتعلم حديثة، والملابس..وهكذا.
هنا نجد أن المتعلم عندما تتولى الدولة دفع الرسوم المطلوبة عنه، لا نتصور أنها مجانية كاملة، فهذه الرسوم هى ثمن ما سوف يُكسبه المتعلم لجملة المجتمع والوطن.
إن أصواتا ترتفع من حين لآخر، معايرة الطلاب بأنهم يحصلون على المجانية من « دم قلبنا»، وينسون أن إنفاق الدولة على التعليم، يأتى من حصيلة الضرائب التى يدفعها أهل هؤلاء المتعلمين وغيرهم، ومن ثم فهى ( بضاعتهم رُدت إليهم )، ويصبح من الخطأ، بل ومن العيب، ارتفاع مثل هذه الأصوات التى ترتفع من حين لآخر، وكأن مجانية التعليم « مِنّة « حكومية لأبناء الناس.
ويبدو أن ما يحمله البعض من أصحاب الأصوات المنددة بالمجانية ممن لا يحملون مشاعر ودية نحو ثورة يوليو 1952، حيث تنسب المجانية إليها، وأنها من مظاهر « الاشتراكية «، مع أن هذا غير صحيح فى كل الأحوال: فمجانية التعليم الابتدائى، وهو القاعدة الأعرض والأوسع ، تمت فى العهد الملكى الرأسمالى الليبرالى زمن حكومة الوفد فى العام 43/1944، حيث كان أحمد نجيب الهلالى وزيرا للمعارف، ومستشاره الدكتور طه حسين، صاحب الفكرة الأساسى.
كذلك فإن مجانية التعليم الثانوى تقررت فى عهد الملك فاروق الرأسمالى الليبرالى، فى العام 50/1951.
أما مجانية التعليم الجامعى فكانت فى يوليو 1962.
مع أهمية التنبه إلى أن هناك كانت منافذ مختلفة للحصول على مجانية التعليم العالى، أبرزها حصول الطالب على 60% من درجات الثانوية العامة، ثم المحافظة على الانتقال من فرقة إلى أخرى بتقدير جيد على الأقل، وكاتب هذه السطور، مثل آلاف غيره، لولا هذا ما استطاع أن يُكمل تعليمه.
بل كانت هناك سبل أخرى مضافة، مثل مسابقة ثقافية كانت وزارة التربية تعلن عنها، محددة عددا من الكتب ذات الوزن الثقافى الثقيل، بحيث من يتفوق فى نمتيجتها يحصل على مجانية التعليم الجامعى..
وكثيرون يعرفون جيدا أن هناك دولا غربية رأسمالية كبرى، تقدم الكثير من صور التعليم المجانى..
وإننى لأذكر فى عام 1998، حيث دعيت، أنا والدكتور على مدكور الذى كان عميدا لمعهد الدراسات التربوية بجامعة القاهرة لتقييم إحد المدارس التى أقامتها الجالية العربية المسلمة فى نيويورك ( مدرسة النور)، حيث تُعلم طلابها مناهج التعليم الأمريكية، مضافا إليها تعليم اللغة العربية والدين الإسلامى لحرص كثير من المهاجرين العرب على أن تظل الرابطة قائمة بين أبنائهم وبين أصول الثقافة العربية.
كانت حكومة الولاية تقدم لتلاميذ هذه المدرسة( الخاصة)، وجبة طعام ساخنة على حسابها، وتوفر عددا من الحافلات لنقل تلاميذ تلك المدرسة التى تقدم ثقافة أخرى مغايرة.
ولما رأى مسئولو التعليم فى الولاية أن تلاميذ الابتدائى لهم فصول فى الطابق الثانى، هددوا بقطع المعونة إذا لم « تركب» المدرسة مصاعد للتلاميذ، وفى المقابل تستطيع أن ترى مدارس عندنا يصعد فيها التلاميذ إلى الطابق الثالث!!
نحكى هذا عن زعيمة الرأسمالية وحاملة لواء الليبرالية، مهما كانت لنا تخفظات على تطبيقات هذه وتلك.
ولماذا نذهب بعيدا، والمجتمع المصرى نفسه، مثله مثل المجتمعات العربية كلها، ظل يقدم التعليم مجانيا، وهو مجتمع إقطاعى ، بل وبعض فتراته ،وقطاعاته، عاشت مجتمعات عبودية فى بعض الأحوال!!
ونحن لا ننكر ما كان وما هو كائن من آثار سلبية للمجانيية، لكننا ننظر غليها كما ننظر إلى ما يكون لبعض الأدوية الطبية من آثار جانبية سلبية يجب التحسب لها وإلا أتى الدواء بعكس المطلوب. وليعجب القارئ ما شاءت له القدرة على التعجب، عندما نخبره أننا نبهنا إلى منذ وقت مبكر، حيث نشرت لنا مجلة المصور، عندما كان يرأس تحريرها العظيم الراحل أحمد بهاء الدين، مقالا على صفحتين، فى عام 1971، حيث كان الحديث عن مجانية التعليم من المحرمات حتى ذلك الوقت، بعنوان( رأى جرئ يطرحه المصور للمناقشة: هل حولت الأجهزة التنفيذية التعليم المجانى إلى تعليم بمصروفات) ، وهو الأمر الذى حدث فعلا وما زال يحدث.
كان تطبيق المجانية يتطلب عددا من المقومات، تتصل بزيادة فى عدد المدارس والمعلمين، والفصول، ولما لم يحدث ذلك ولو بنسبة 50% ، لجأت الوزارة إلى اغتيال المساحات الخالية بها لتبنى بها فصولا، وزادت أعداد الطلاب تدريجيا حتى وصل الأمر فى بعض المناطق الآن إلى ما يزيد على ثمانين طالبا، وتحولت غرف الأنشطة إلى فصول..وهكذا.
كانت النتيجة – ولا تزال- تراجع تدريجى فى مستوى الخدمة التعليمية الحكومية، مما فتح الأبواب تدريجيا لظهور الدروس الخصوصية لتعويض سوء الخدمة، وتزايد الإقبال على الكتب الخارجية، وتزايد مراكز الدروس الخاصة، فإذا بطلاب مدارس االدولة يدفعون لغيرها أضعاف ما يدفعون لها، وتصبح المجانية أثرا بعد عين، وتُحَمّل كل أوزار سوء الخدمة!
كتبنا محذرين من هذا منذ ثلاث وأربعين عاما، لكن بدا أن أولى أمر التعليم – حتى الآن- لا يقرأون، وإن قرأوا لا يستوعبون، وإن استوعبوا، عجزوا عن التحرك للإصلاح، بل ووصل البعض إلى حد اتهامنا مرة بأن كاتب هذه السطور شيوعى( فى أواسط الثمانينيات) ، ومرة أخرى بأنه إخوانى ( فى أواخر التسعينيات) ، ونحن لا هذا ولا ذاك، متناسين أن القضية لا تكمن فى لون القط بقدر ما تكمن فى مدى قدرته على اصطياد الفئران!!
الدروس الخصوصية:
وإصابة تعليمنا بدءا من الدروس الخصوصية، وتزايد أسعارها عاما بعد عام، شكل بابا جهنميا لفتح الباب أمام ابناء القادرين على الحصول على مجموع درجات أعلى ليواصل تعليمه، بينما عجزت جماهير غفيرة عن ذلك.
إننا لا نزعم مناقشة هذه القضية مناقشة تفصيلية، فهذا يحتاج إلى دراسة خاصة، وإنما نشير إليها فقط من حيث تشكيلها بابا للتمييز بين المواطنيين، لا بناء على اجتهاد وتفوق، وإنما بناء على قدرة مالية، مما يشكل انتهاكا للعدل التربوى الذى يتطلب الحصول على حق التعليم بغض النظر عن عوائق تتصل بالجنس أو النوع أو العقيدة أو المال أو المذهب.
لقد حصر كثيرون العلة فى انخفاض مرتبات المدرسين، مما يدفعهم إلى التراخى عن التعليم الجاد فى المدارس، وبالتالى دفع الطلاب إلى تعاطى الدروس الخاصة.
وعلى الرغم من اعترافنا بأن مسألة المرتبات عامل مهم ، لكن هناك أبعادا أخرى للقضية تكمن فى أوضاع اقتصادية تجعل القدرة الشرائية للعملة المصرية تتراجع باستمرار، مما يلتهم أية زيادات فى المرتبات، ولتسهيل فهم هذه القضية، فنقدم مثالا غاية فى البساطة.
ففى عام 1960، عندما عُينا مدرسين، كان المرتب 15 جنيها، كانت تكفى كلا منا ، بل والادخار منها، والآن يصل الحد الأدنى إلى 1200جنيه، ولا تكفى، كيف؟
كان ثمن الجريدة سنة 1960 قرشا واحدا، والآن 150 قرشا، أى زادت بنسبة 150 مرة، وإذا زاد المرتب بالنسبة نفسها لوجب أن يكون الحد الأدنى للمرتب 2250 جنيها، وهو الأمر المستحيل تنفيذه، وإلا لعجزت وزارة التربية عن القيام بأى مهمة تعليمية.
وهذا برهان قوى على ما رددناه- ولا نزال- عن أن المسألة ليست تكافؤا فى فرص التعليم، ولا هى ديمقراطيته، وإنما هى فى «العدل» الذى يوفر الشروط المجتمعية ، والتى تشكل ما يشبه «الهيكل الخرسانى» لأى بناء هندسى.
التمييز فى أنواع التعليم:
وكان من جراء ما سار إليه الاقتصاد المصرى منذ أوائل السبعينيات ، وبروز شرائح منتفعة من بعض الثغرات القانونية والإدارية، والتزاوج بين رأس المال والسلطة، كان لابد من انفتاح الأبواب « للتيسير على « أبناء القادرين ماليا، وفى الوقت نفسه « تعسير» السبل» أمام أبناء غير القادرين:
• فمن عام لآخر تُفتح مدارس تقدم خدمة تعليمية متميزة، مع تعدد وتباين فى التميز لتصل الذورة إلى ما يسمى بالمدارس الدولية، بدفع آلاف من الجنيهات سنويا.
• ومنذ عام 1979، سعت الدولة إلى تحصيل مصروفات عالية من التلاميذ، لكن النص الدستورى على مجانية التعليم، كان يحول بينها وبين ذلك، فتم اختراع تسمية «المدارس التجريبية» والتى لم يكن فيها أى تجريب، حتى «يُشَرّع» لتناسى المجانية!
• والشئ نفسه فى جامعات خاصة ، حتى أن بعضها يتطلب من المال، ما يعجز الدخل السنوى كله لآلاف من المصريين أن يوفروه لأبنائهم. ولب القضية هنا أن مكتب التنسيق إذا كان يفاضل بين المقبولين بناء على مجموع درجاتهم، فهنا ينفتح الباب لتعويض من لم يحصلوا على مجموع مناسب، شراء بالمال.
• وفى الجامعات الحكومية نفسها، شهدنا أبوابا خلفية للتزايد المستمر فى طلب مصروفات:
أ- فقد ظهر ما سمى « بالانتساب الموجه» ، تحايلا على الانتساب العادى لاستجلاب مزيد من المال.
ب- وكل الدراسات العليا الآن أصبحت تتطلب آلافا من الجنيهات، وحيث أصبحت المجانية من مخلفات العصور الماضية.
ت- واخترعت الكليات المختلفة ما سمى بالتعليم المتميز لتحصيل آلاف من الجنيهات كمصروفات، مع أن ذلك يتم على أرض عامة، وفى مبنى عام.
ث- وترافق مع هذا وذاك اختراع حكاية التعليم بلغة أجنبية، مع أن القاعدة القانونية للجامعات تنص على أن يكون التعليم باللغة العربية، مع استثناء بعض الدراسات.
وفى النهاية فأعلم جيدا أن القارئ ينتظر منى أن أقدم له حلولا ناجعة، ودون قصد التهرب، أو الكشف عن عجز شخصى، فإننى أؤكد أن القضية أعقد وأخطر من أن يتصور أحد أنه قادر بمفرده على تقديم حل لهذه القضية، لأن لها أبعادا سياسية واجتماعية واقتصادية، وتتطلب وعيا ، مصحوبا بحركة تنفيذية على أرض الواقع، تعكس هذا الذى عرضنا له فى دراسة سابقة عن أن «: الأمن التربوى» ينبغى أن يتصدر أولويات الدولة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وتشريعيا، مما يؤكد ما لا أقول طلبنا به، بل «صرخنا» به عدة مرات، من ضرورة «المواجهة القومية»، التى يمكن أن تتمثل فى جمع من المتخصصين، علميا وتنفيذيا، لمناقشة القضية من أبعادها المختلفة، وطرح ما يصلون إليه على الرأى العام طرحا حقيقيا وليس مظهريا، وتتمثل فى جمع من المتخصصين فى كل هذه المجالات ،فليس هناك ما هو أخطر من بناء الإنسان، والأمة التى تعمل وفقا لهذا، عليها أن تراجع أولوياتها.
...هذا أو الطوفان، لا قدر الله.
لمزيد من مقالات د.سعيد اسماعيل على


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.