حين يستعيد المرء هذه المقولة النبوية الكريمة التي وجهها الرسول صلي الله عليه وسلم للأنصار, عند قدومه الي المدينة. فلا يمكن أن يفهم منها أنه عليه الصلاة والسلام قد ترك للناس حرية التصرف الكاملة في مختلف جوانب حياتهم: الأسرية والأخلاقية والمالية والاجتماعية, دون التزام بتشريع إلهي, أو انتظار لتوجيه رباني!! وهل يمكن أن يفهم منها ذلك, والتشريعات الإلهية تتوالي, والتوجيهات القرآنية تتنزل, لتنظم الحياة كلها في شمول واستقصاء؟ لو كان هذا الفهم الذي يتبناه العلمانيون صائبا لكانت تلك المقولة النبوية الكريمة بمثابة استقالة مسبقة من دور الدين كدين, وافراغ مبكر له عن مضمونه ومحتواه!! ولو أن المرء قد تأمل قليلا في هذه المقولة النبوية التي وردت في صحيح مسلم, لأدرك من سياقها: توجيها نبويا راشدا يقوم علي التمييز بين مجالين مختلفين من النشاط الإنساني, يشكلان معا, جناحي الحضارة الإنسانية الراشدة, فهناك النشاط الإنساني المتعلق بإعمار الأرض, والذي يستند الي المهارات والخبرات البشرية, وهناك القيم والتوجيهات الإلهية التي تضبط ايقاع الحياة, وتحدد فيها الحق والباطل, والخير والشر, والجمال والقبح, ثم توثق عراها بخالقها الحكيم العليم, وبهذين الجناحين تتكامل الحضارة الإنسانية, وتسير علي ساقين, وتري بعينين لكن العلمانية التي تبتغي بتر أحد الجناحين بفصل الدين عن توجيه الحياة بمعناها الشامل: تضيق ذرعا بما يضعه الدين من موجهات وتشريعات تنظم النشاط البشري, وتغرسه في تربة القواعد الدينية, بل تري فيها قيودا علي حرية الإنسان, وعلي طلاقة تصرفاته, لأن الدين بمطلقاته الغيبية قاصر عن التعامل مع عالمنا النسبي المتغير, ويكفي من الدين عندهم مجرد احاسيس روحانية هائمة غائمة تدغدغ العواطف, وتستثير المشاعر, أما حياة الناس بما تضطرب به من أحداث وتكتظ به من وقائع: فالعقل البشري لديهم هو القادر علي تدبيرها وتسييرها! وبشيء من التأمل فيما يقوله العلمانيون نلفت النظر الي أن الحياة حين ينفصل فيها الدين عن شئون الناس, وحين تفرغ من المطلق, وتنأي عن الغيب فإنها ترتد الي النسبية, وتخلو من القيم, وما كان الاسلام عاما وشاملا إلا لإيمان المسلم بالحق المطلق, والعدل المطلق, والجمال المطلق, من جهة, ولاعتقاده من جهة أخري بعالم الغيب حيث الرقيب الذي لا تخفي عليه خافية, ولا تغرب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض. انه حين شاعت النسبية التي يتوق إليها العلمانيون, شاع معها العدل المنقوص, والحرية المنفلتة, والفردية المقيتة, علي مستوي الأفراد, والدول, وكم هضمت في سبيل ذلك حقوق, وانتهكت مقدسات!! حين شاعت تلك النسبية التي يتغني بها العلمانيون, عرفت البشرية ذلك الفصام النكد بين مجريات الحياة وبين الأخلاق, وبين العلاقات الإنسانية والأخلاق, وولدت العولمة المتوحشة التي انتجت معاييرها الخاصة, ففقد معها الإنسان كونه إنسانا!! وبشيء من التأمل فيما قاله العلمانيون, نلفت النظر الي أن ما يعددونه من المعايب والمثالب لامتزاج الإسلام بنسيج الحياة: تشريعا, وأخلاقا وسلوكا, فإنما هي معايب ومثالب الدولة الدينية( الثيولوجية), التي تختلف في أصولها وتطبيقاتها عن الإسلام اختلافا كثيرا. فالحاكم في الإسلام لا يستمد سلطته من الحق الإلهي في الحكم, ولا من هيمنة الكنيسة, أو من سطوة رجال الدين, والحكم في الإسلام لا يسلب المحكومين حقهم الأصيل في اختيار الحاكم ومحاسبته, ولا يقلل من حريتهم في تعديل مساره. وبشيء من التأمل في تاريخ الحضارة الإسلامية تشريعا وعمرانا وفنا وفلسفة وآدابا, يمكن للمرء أن يتيقن أن تلك الحضارة ما كانت لتقوم لها قائمة لو أنها عاشت طوال بقائها في انفصال عن الدين, أو في ظل سلطة دينية باطشة حجبت عنها نور العقل, ونسائم الحرية, وألف العدل!! ولئن كانت هذه حال حضارة الإسلام فإن الإسلام نفسه لم يكن يوما نصيرا للاستبداد السياسي, ولا قرينا للظلم الاجتماعي, ولا عونا علي الطغيان والفساد, بل كانت تعاليمه وأصوله ومنطلقاته بنية حاضنة لقيم المساواة والعدل والحرية, ومجابهة الفساد, ودفع الظلم, ومناخا نقيا للتنوع المنضبط, والاختلاف الرصين, والتعدد السديد, لقد قال أبوالعلاء المعري بما لم يقل مثله فولتير وروسو, ومع ذلك فقد مات علي فراشه, وقبره الي اليوم مزار يرحل إليه الناس في بلده, أفلا يكون ذلك شاهد صدق علي سماحة الإسلام, وما يتمتع به نظامه من إتاحة التنوع وقبول المختلف, أم أن العلمانيين يصرون علي أ لا يروا في الإسلام إلا مساويء الدولة الدينية, مع أن الإسلام يبعد عنها بعد المشرقين؟