بدخول القوات السورية مدينة دير الزور الإستراتيجية تكون قد أحبطت مخطط التقسيم إلى حد كبير، بعد أن اقتربت من بسط سيطرتها على البادية التى تشكل نصف مساحة سوريا، وما بها من معظم آبار النفط والغاز والثروة المعدنية، إلى جانب ملاصقتها للحدود مع الأردنوالعراق، ولهذا كانت البؤرة الرئيسية المستهدفة لإقامة كيان مستقل يفصل سوريا عن العراق، وإن كان وزير الدفاع الإسرائيلى أفيجور ليبرمان لم يفقد الأمل فى فصل سوريا عن العراق، وقال إننا سنقوم بكل ما نستطيع لمنع إقامة ممر بين إيرانوسوريا، وها هى «قوات سوريا الديمقراطية» ذات الأغلبية الكردية تعلن عن بدء عملية عسكرية شمال دير الزور، فى محاولة لإيجاد موطئ قدم للقوات الأمريكية قرب عقدة الطرق بين سورياوالعراق وحقول النفط والغاز. تطور آخر لافت شهدته الحدود السورية الأردنية، بالإعلان عن اتفاق مع غرفة عمليات عمان يقضى بانسحاب ما تسمى «قوات أحمد العبدو» و«جيش أسود الشرقية» من مواقعها فى جنوب سوريا، وتسليمها إلى الجيش السوري، الذى كان قد بسط سيطرته على معظم المعابر مع الأردن، وسط انهيار واسع للجماعات المسلحة قرب الحدود الأردنية، وشمل الاتفاق فتح معبر نصيب وهو شريان تجارى للشاحنات المتنقلة بين كل من تركيا وسوريا ولبنان والأردن وهو مؤشر على أن الأردن والدول المحيطة تتجاوب وتوفق أوضاعها مع المتغيرات الجديدة. انهيار داعش وكثير من المجموعات المسلحة فى سوريا أجبر بقية الفصائل بما فيها جبهة النصرة بالدخول تحت مظلة مناطق وقف التصعيد التى وسعتها المساعى الروسية بين مختلف الأطراف، ولم تعترض عليها سوى إسرائيل، التى رأت فيها تكريسا لهزيمة الجماعات المسلحة، إما بالقوة أو تحت التهديد باستخدامها. بدأت نتائج الهزائم العسكرية لداعش وباقى الجماعات المسلحة فى سوريا بالظهور على الداخل السورى والمحيط الإقليمى والدولي، بتراجع أوروبا والولايات المتحدة عن المطالبة بتنحى الرئيس السوري، الذى أصبح شرطا غير قابل للتحقيق، وهو ما سينعكس على المعارضة السورية فى الخارج، والتى أصبح مطلوبا منها خفض سقف توقعاتها ومطالبها، واندهش المبعوث الدولى ديميستورا من تصلب بعض أجنحة المعارضة، خاصة منصة الرياض، وقال إنه يأمل أن تقتنع المعارضة السورية بأنها خسرت الحرب، وعليها أن تطرح أفكارا أكثر واقعية وقابلة للتطبيق. على الجانب الآخر اقترب العراق من إحراز نصر شامل على داعش، بعد تحرير الموصل وتلعفر، وانتقال قواته للسيطرة على الحويجة وغرب الأنبار، ولا يقلقه سوى المغامرة الكردية بإجراء استفتاء حول الانفصال، وهى قفزة فى الفراغ، أراد منها رئيس الإقليم المنتهية ولايته مسعود البرزانى أن يحصل على أكبر قدر من المكاسب قبل القضاء على داعش، لكنه لم ينجح لا فى الحصول على مكاسب من الحكومة العراقية، ولا على تأييد إقليمى أو دولى، سوى إسرائيل، وقد تؤدى هذه الخطوة إلى صدام لن يكون فى صالح كردستان العراق، وربما تخسر بعض ما كسبته فى العقدين الماضيين. أما أهم المكاسب فهى تراجع المتشددين الذين كانوا يراهنون على انتصار الدواعش أو بقائه على الساحة لفترة أطول، تمكنهم من انتزاع مكاسب من الحكومة المركزية، ومعظم هؤلاء من بقايا حزب البعث وغلاة السنة، الذين سيفقدون مساحة كبيرة سوف تشغلها الأصوات الأكثر عقلانية، بما يمهد لمصالحة وحل سياسى يرضى معظم الأطراف. كان وزير الدفاع الإسرائيلى ليبرمان قد وصف ما يحدث فى المنطقة بأنه «زلزال تاريخى»، كانت إسرائيل تطمح من خلاله إلى تفسيم سورياوالعراق، وبرر ليبرمان هذا الطموح الإسرائيلى بأن اتفاقية سايكس بيكو لم تراع مصالح الشعوب، وأن التقسيم سوف يكون فى مصلحة شعوب المنطقة، لكن النتائج التى بدأت تلوح فى الأفق لم تأت كما اشتهت إسرائيل، فبدلا من قطع التواصل بين إيرانوالعراقوسوريا ولبنان فقد وجدت إسرائيل أن إيران قد اقتربت من حدودها، وأصبحت على مشارف هضبة الجولان المحتلة، وهو ما أثار غضب ومخاوف إسرائيل، والتى انعكست فى إجراء أكبر مناورة عسكرية منذ نحو 20 عاما على حدودها الشمالية، وشن غارة على مخزن صواريخ ومركز أبحاث فى بلدة مصياف قرب مدينة حماه السورية، ومن قبلها زار رئيس الوزراء الإسرائيلى موسكو فى محاولة لأن يضغط لوضع حد للوجود العسكرى الإيرانى فى سوريا، وعندما لم يجد تجاوبا شنت الولايات المتحدة أوسع حملة دبلوماسية وإعلامية ضد موسكو، لكن كوريا الشمالية أفزعت واشنطن بتفجير قنبلتها الهيدروجينية الأولي، وقوتها تبلغ 20 الف مرة قنبلة هيروشيما. إن الزلزال التاريخى الذى تحدث عنه ليبرمان قد ألحق دمارا واسعا فى المنطقة، وضحايا بمئات الآلاف وجرحى ونازحين بالملايين، لكنه فشل فى تحقيق ولو المرحلة الأولى فقط من هذا المخطط الرهيب، والذى كان سيمحو دولا ويأتى بدويلات جديدة فى عموم المنطقة، ويوجز السفير الأمريكى السابق فى دمشق روبرت فورد نتائج هذا «الزلزال التاريخى» بقوله «لقد خسرت أمريكا وحلفاؤها الحرب وربحت روسياوإيرانوسوريا وحزب الله»، وأصبحت المعارضة السورية فى أسوأ أحوالها، بينما النظام السورى أقوى من أى وقت سابق. مازالت عوامل الصراع باقية فى المنطقة، بل تفاقمت أكثر، ومع ذلك تجرى حياكة مشاريع تسوية، لأن كل الأطراف تخشى الثمن الباهظ لتفجر صراع عسكرى واسع، لا يمكن التنبؤ بأهواله، وتمنح الأطراف إما استراحة مقاتلين، أو فرصة للبحث عن أدوات جديدة لصراع يبدو أنه حتمى ولا يمكن تجنبه. لمزيد من مقالات مصطفى السعيد