بات انتهاء الدولة الإسلامية في العراق والشام «داعش» قريبا، الجيش العراقي يندفع بقوة إلي أهم معاقل التنظيم في الفلوجة، وسط توافق عراقي وطني لأول مرة، جسده زيارة رئيس الوزراء الشيعي ورئيس البرلمان السني ورئيس هيئة الوقف السني إلي غرفة عمليات اقتحام الفلوجة، ترافق مع التغير الملحوظ في مزاج االبيئة الحاضنةب للدواعش في المناطق السنية،والتي تحولت إلي رفض حكم الدواعش، وتتوق إلي وقف الحرب التي شردت ملايين العراقيين، وخسروا فيها الأبناء والأقارب والبيوت والعمل والبنية التحتية، ويترقبون انتهاء كابوس حكم الدواعش، بعد أن كانوا يظنونه عودة لحكم الخلفاء الراشدين، الذي يبسط العدل، ويباركه الله بالخيرات والقوة، ولم يروا منه إلا المجازر والجوع والتشرد والعبودية لأمراء داعش القساة. لكن الفراغ الكبير الذي سيخلفه سقوط دولة «داعش» سيربك المنطقة، لأنه لا وجود حقيقي لقوة بديلة سوي الجيشين العراقي والسوري وحلفائهما، بعد أن حيدت القوات الجوية الروسية المدعومة بمنظومة صواريج اس 400 إمكانية دخول قوات تركية. كما لا يبدو الأردن متحمسا لفتح جبهة قتال مباشر ضد سوريا انطلاقا من أراضيه، بينما اكتفت الولاياتالمتحدة بإرسال 500 جندي وضابط لقيادة عملية تحرير مدينة االرقةب السورية من داعش، لتحقق نصرا معنويا، بوصف «الرقة» عاصمة دولة داعش، لكن قوام القوات الكردية، وبعض العشائر العربية التي استمالتها أمريكا ليس بمقدورها أن تحتفظ بقطعة أرض كبيرة، حتي لو أعلنت إقامة افيدرالية سوريا الديمقراطيةب. لم يعد بمقدور أمريكا تعطيل زحف الجيش العراقي طويلا، فقد تمرد الجيش العراقي علي الضغوط أو النصائح الأمريكية، التي كانت تعترض علي دخوله الفلوجة، وتصر علي أن يحشد قواته حول الموصل، لكن حكومة العراق وقادة الجيش لم يحتملا تكرار تفجير السيارات المفخخة والأحزمة الناسفة المنطلقة من الفلوجة، لتنشر الجثث والرعب في أنحاء العاصمة العراقيةبغداد والمدن الأخري القريبة من الفلوجة، وخلال أيام قليلة كان الجيش العراقي ومعه قوات الحشد الشعبي والحشد العشائري تنطلق شمال وغرب بغداد، وأطبقت علي الفلوجة، وحررت عشرات القري والمدن في الأنبار، ووصلت إلي الحدود الأردنية، واقتربت من الحدود السورية. بعض الدول العربية مازالت عازمة علي استمرا دعم «المعارضة السورية المسلحة»، والتدخل في العراق لمنع سيطرة الجيش علي المناطق ذات الأغلبية السنية، لكن الفراغ الذي ستخلفه هزيمة داعش يتطلب دخول قوات بديلة، ولا يوجد في العراق قوة كافية جاهزة، كما أن الجماعات المسلحة الأخري تتراجع في سوريا، رغم تزويدها بأسلحة حديثة، وتعزيزها بأعداد أخري من المقاتلين عبر الحدود التركية. لا يبدو أن الحل السياسي قادر علي تحقيق تسوية مرضية، فالدول الداعمة للمعارضة في سورياوالعراق لن تقبل بأقل كثيرا مما كانت تحلم به، وأنفقت من أجله مئات المليارات طوال سنوات، حتي إنها بدأت تعاني من أزمات اقتصادية، انعكست علي معدلات النمو والخدمات الاجتماعية، خاصة مع الانهيار الكبير في أسعار البترول، بسعيها لزيادة الإنتاج، لتغطية انفاقها العسكري المتزايد من ناحية، والضغط الاقتصادي علي كل من روسياوإيران، وكان من نتيجة حرب الأسعار أن تهاوي البترول من 120 دولارا للبرميل إلي نحو 30 دولارا فقط، بينما الإنفاق العسكري بلغ ذروات غير مسبوفة، حتي إن السعودية احتلت المركز الثالث عالميا في الإنفاق العسكري بعد أمريكا والصين، وسبقت كلا من روسيا وبريطانيا وفرنسا وإسرائيل، وهو الحال في الكثير من دول الخليج، التي باتت تئن من الفاتورة المرتفعة للحروب المستعرة في المنطقة. إن العرب في مفترق طرق شديد الأهمية والخطورة، وليس أمامهم إلا طريقان، الأول هو السير قدما في الصراع الدموي الدائر، علي أمل حسمه بسرعة، وهو سبب ظهور آراء تدعو إلي سرعة عقد اتفاقية سلام مع إسرائيل، واستمالتها في مواجهة إيرانوروسياوسوريا وحزب الله، وجاءت المبادرة الفرنسية في هذا السياق، لتفتح الطريق أمام تقارب عربي إسرائيلي يعزز التعاون، ويقلل من مخاوف بعض دول الخليج من التلويح الأمريكي بالانسحاب من المنطقة، وهو ما يجعلها في مواجهة غير متكافئة مع إيران. أما الطريق البديل فهو سرعة إطلاق مبادرة سلام بين العرب أولا، ورأب الصدع بين دول الخليج وكل من سورياوالعراق ولبنان واليمن، والتوصل إلي تسويات للقضايا الملتهبة، والتي يصعب علي أي طرف تحقيق انتصار حاسم فيها، بما يجعلها مرشحة لاستنزاف المزيد من الأرواح والأموال.أما أي اتفاق سلام مع اسرائيل في ظل الأوضاع العربية المزرية فلن يكون إلا علي حساب العرب، وحقوق الفلسطينيين، خاصة في ظل أكثر الحكومات يمينية في تاريخ اسرائيل، وحصول المتطرف ليبرمان علي حقيبة وزارة الدفاع. كما أن اسرائيل سوف تستغل استمرار الصراع لتحقيق أهدافها الخاصة، وليس لمساعدة تحالف عربي في مواجهة آخر، بما يعزز هيمنتها علي المنطقة. إننا بحاجة إلي مبادرة سلام بين العرب أولا، فالحالة التي بلغها الوضع العربي غير مسبوقة في تخبطها، وإذا ما استمرت في هذا الطريق فلن يمر وقت طويل حتي تنهار الدول العربية تباعا. لمزيد من مقالات مصطفى السعيد