بين شاى مخلوط بنشارة الخشب اعتاده الجميع حتى وقر فى ضميرهم أنه الأصل.. وشاى أصيل تاه مذاقه عنا حتى اعتقدناه مغشوشا.. ضرب لنا السيناريست الراحل محمود أبو زيد مثلا فى فيلم «الكيف» على لسان سليم «البهظ بيه» العبقرى جميل راتب.. مثلا اعتدنا به الفهلوة وتصالحنا به مع انعدام الاتقان وتوافقنا به حول غياب الضمير وتزاحمنا به على الطرق المختصرة.. متناسين أن البهظ بيه لم يكن سوى تاجر مخدرات.. وأن ما صرنا إليه من تخلف ليس سوى حصائد ضمائر مخلوطة بنشارة الاستسهال والاستخفاف والاستهانة. على ذلك المضمار مضت السينما فى صراع بين دورين.. دور بضاعة مغشوشة تعمد إلى الإلهاء والتغييب والتخدير.. وبضاعة أصلية تسعى للارتقاء والتنوير والتغيير.. صراع فاز فيه تاجر المخدر بالأموال والثراء.. وانتصر فيه صانع الفن بالمجد والبقاء.. وبينما الألسنة تلهج برثاء فن الزمن الجميل.. يخرج لنا من يخبرنا بالفعل لا بالقول - أن لكل زمن فنه الجميل.. ويطمئننا بأن الأمانى ممكنة فى زمن المهرجانات.. ويضع أيدينا على كنز من أصول الأصول.. أهالت عليه مشقات الحياة ركام الإهمال.. بفيلم من سينما الكبار.. فيلم «الكنز». يجيد كاتب الكنز عبد الرحيم كمال التنقيب الفنى فى آثارنا الخالدة.. لا مبالغة فى القول إنه الأفضل فى السنوات الماضية على هذا الصعيد.. الرجل الذى أعاد لصعيد مصر تقاليده المتآكلة ب«شيخ العرب همام» و«الرحايا حجر القلوب».. وأعاد الأضواء لكنوز الأقصر والنوبة المنسية ب«الخواجة عبد القادر».. أعاد اكتشاف موهبته الخاصة بفيلم بانورامى بديع يمزج بين التاريخ والموروث الشعبى والرمز والأسطورة والسياسة والفلسفة والتصوف. انطلق كمال فى «الكنز» برداء مؤرخ عارف يردنا إلى الله أصل الوجود ويفضح من تاجروا باسمه من أجل سلطة وجاه.. يعيدنا لأمجاد أجدادنا الذين لم نعد نعرف عنهم سوى سنوات الحضارة ال7 آلاف.. يفكك لنا تفاصيل المعادلة الحاكمة منذ قديم أزلنا بين الملك والرعية.. بين الملكة وكهنتها الحاكمين تحت شعار الدين.. بين الوالى وقبضته الأمنية الفاسدة الباطشة والثائر عليهما.. بين الضابط والناشط والمغنية الحسناء.. علاقات يتغير أطرافها ولا تتغير وتيرتها عبر الزمان. متسلحا بثقافة موسوعية يمضى بنا الكاتب بين عهود ثلاثة.. عهد الملكة حتشبسوت أول ملكة فرعونية تجلس على عرش مصر وعهد الدولة العثمانية بجبروتها وولاتها بغيهم والبطل الشعبى الثائر الموتور نصير المهمشين على الزيبق، وعهد ما قبل ثورة يوليو حيث المجد للملك وحاشيته ورجال أمنه والهوان لمن هم دونهم.. بحبكة مضفرة بعناية فريدة وتناغم لا نشاز فيه.. تترك فى نفوسنا فخرا بكنز من الرموز التى هجرناها سعيا وراء الغرب ولهاثا خلف أبطاله.. يذكرنا بمصر أصل حضارة البشر وحاضنة الشرق عبر التاريخ.. يؤمننا على كنزنا الذى بين أيدينا ولا نراه.. ويتركنا أمام الاختيار بين أن نحفظ أو أن نبيع.. أن نتمسك ونفتخر أو أن نستهين ونهجر. لم يكن لتلك الدراما العابرة للزمن أن تترك مثل هذا الأثر لولا مخرج عبقرى مثل شريف عرفة، قدم لنا صاحب الروائع فى أحدث روائعه قصة سينيمائية فنية ممتعة مبهرة مكتملة الأركان، فى فانتازيا استعراضية حملتنا لمجد سمعنا عنه ولم نر إلا فنه الخالد. فى فيلم واحد عشرات المشاهد الثرية بين المعابد والمساجد وشوارع القاهرة القديمة.. تابلوهان غنائيان ساخران قدمهما المفاجأة أحمد أمين وأغنيتان آسرتان بصوت نسمة محجوب وأداء الموهبة الرقيقة أمينة خليل و3 مواويل من السيرة المنشدة للمبتهل الشيخ إيهاب يونس.. إبداع شعرى خالص زاد الصورة السينمائية المبهرة إبهارا وتدفقا لأمير طعيمة.. أما الموسيقى فكانت حالة الفيلم المهيمنة بلا منازع.. ورابط مشاهده المترامية بين حلقات تاريخنا الزاخر.. موسيقى هشام نزيه ذات الوقع الأخاذ.. الغرائبية كموسيقى «السبع وصايا».. والجامحة كموسيقى «إبراهيم الأبيض».. والمتحفزة كموسيقى «تيتو».. مقاطع موسيقية تغمرنا بالتفاصيل المميزة فى اتصالها وانفصالها.. مواهب كبرى أجاد عرفة استغلال أفضل ما فيها.. تكشف عن كنزنا الحقيقى الذى لا ينضب.. تلك مصر العامرة أبدا بالحضارة.. عاصمة الفن والثقافة بلا منازع.. حاضرة العرب الأولى بلا منافس. لست أدرى لم أهدر الفنان محمد سعد كل تلك الموهبة الفياضة فى قالب واحد، ربما أراد، بحذق ابن السيدة زينب، أن يجمع الجميع على انتقاده قبل أن يقدم عرضا يوحدهم فى الثناء عليه والدهشة بقدراته.. أم أن الرجل أقلع عن التركيز على جمع الملايين وبدأ فى صناعة مجده الفنى الحقيقي.. الفرحة بعودة سعد إلى فنه فاقت جميع التساؤلات.. حمدا لله على السلامة. أن يجتمع أمام عينيك بين أطراف شاشة واحدة الأسطورة محمد رمضان والجميلة الصادقة هند صبرى والمصرية فى كل تفاصيلها روبى والمبدع المتجدد أحمد رزق وصاحبة الموهبة الجياشة أمينة خليل والعملاقان سوسن بدر وعبد العزيز مخيون والمخضرم محيى إسماعيل والرائعون الشحات مبروك وهيثم أحمد زكى وعباس أبو الحسن وأحمد أمين وهانى عادل وغيرهم من مئات النجوم خلف الكاميرات ووراء الأجهزة.. فأنت أمام فيلم ضخم بكل معنى الكلمة.. مباراة فنية كبرى فى الأداء.. وسيمفونية سينيمائية جماعية مبهجة تدعو للفخر.. أما العناصر الفنية واكتمالها فلها نقادها المتخصصون.. وأما الرسالة فستبقى وتمتد للجزء المقبل بمزيد من الجدل والنجاح والمتابعة.. وأما الكنز الحقيقى فستجده بداخلك قبل أن تغادر قاعة السينما.. ولن يغادرك لفترة طويلة مقبلة. لمزيد من مقالات أحمد هوارى