بعد سنوات طويلة من الغياب، عادت مصر لممارسة دورا هاما ومطلوبا على الساحة السورية من أجل وقف النزاع المسلح والتوصل لتسوية سلمية. كان الغياب المصرى إستثنائيا ومؤقتا بسبب الظروف التى مرت بها البلاد منذ 2011، لكن كان مآله الزوال بالنظر لثقل مصر السياسى فى العالم العربى وبسبب التداعيات الخطيرة للتطورات الداخلية فى سوريا والتدخلات الخارجية الإقليمية والدولية المتعددة، والتى لم يكن للقاهرة أن تظل بمنأى عنها حفاظا على مصالحها وعلى إستقرار المنطقة التى تمثل عمقا إستراتيجيا لها. كانت عودة مصر للمشهد السورى تدريجية، وتجلت فى مجموعة من المواقف والخطوات والمبادرات السياسية والدبلوماسية، أهمها إستضافة ورعاية القاهرة للعديد من إجتماعات المعارضة السورية بهدف توحيد مواقفها تمهيدا لمشاركتها بشكل فعال فى مفاوضات السلام برعاية الأممالمتحدة. وكان التوجه المصرى واضحا بهذا الشأن، إذ أن إنفتاح القاهرة كان باتجاه المعارضة المعتدلة التى تنادى بإرساء دولة مدنية فى سوريا وبعيدا عن التيارات المتطرفة والإرهابية والتى تتاجر بالدين فى السياسة. وقد تمخض ذلك عن تشكيل ما إصطلح على تسميته ب"منصة القاهرة"، وهى جزء من المعارضة السورية، بجانب منصتى "الرياض" و"موسكو"، وهما يمثلان فصائل أخرى من المعارضة السورية تحظى برعاية كلا من السعودية وروسيا. وقد التقى الأطراف الثلاثة فى 21 و22 أغسطس فى الرياض بهدف توحيد المواقف، تمهيدا لمشاركتهم مع الحكومة السورية فى الجولة المقبلة من مفاوضات جنيف للسلام، لكن تمسك "منصة موسكو" بعدم الإشارة لموضوع رحيل الرئيس بشار الأسد عن السلطة حال دون التوصل لإتفاق. كما تجلت عودة القاهرة للساحة السورية فى إنفتاحها على نظام دمشق، إذ تكررت زيارات مسئولين سوريين. كما أن الرئيس عبد الفتاح السيسى أعلن فى مقابلة مع التليفزيون البرتغالى أذيعت فى 22 نوفمبر 2016، أن مصر تدعم الجيش السورى فى مواجهة الجماعات الإرهابية وللحفاظ على وحدة الأراضى السورية. هذا التوازن فى مواقف مصر تجاه الفرقاء السوريين جعل من مصر طرفا مناسبا ومقبولا منهم للتوسط فى إتفاقات لوقف إطلاق النار فى بعض المناطق. فقد إستضافت القاهرة مباحثات ل"خفض التصعيد" بين الأطراف السورية، تمخض عنهما إتفاقين لوقف إطلاق النار فى الغوطة الشرقية بمنطقة ريف دمشق فى 22 يوليو وفى شمال حمص فى 2 أغسطس. ويشمل هذا الإتفاق الأخير 84 مدينة وبلدة تقطنها 147 ألف نسمة. وقد أثنت أطراف المعارضة السورية على مصر التى قامت بدور الوسيط النزيه ووفرت الرعاية للمفاوضات دون التدخل فى سيرها أو الضغط على الأطراف، تاركة لهم حرية إتخاذ القرارات التى يرونها مناسبة لمصلحة البلاد. والواقع أن هذا هو ما ميز دوما الموقف المصرى من النزاع السورى، والذى تمثل فى نقاط محددة هى ضرورة التوصل لحل سياسى وإنهاء العنف فى ظل الحفاظ على وحدة أراضى سوريا ومنع تجزئتها وإستمرار مؤسسات الدولة ومنع إنهيارها حتى تمكن من مواصلة أداء دورها وتقديم خدماتها للمواطنين، الذين يجب أن يترك لهم أمر تحديد مستقبل البلاد ومصير النظام السياسى. وكان الموقف المصرى فى هذا الشأن مغايرا لمواقف أطراف أخرى إقليمية ودولية طالبت دوما برحيل الرئيس بشار الأسد كشرط مسبق لأى تسوية سياسية، مثل السعودية والولاياتالمتحدة وبعض دول أوروبا، فى حين ترى القاهرة أن نظام دمشق هو أحد أطراف المعادلة الذى يجب إشراكه فى جهود التوصل لحل سياسى. وقد أثبتت التطورات فى ساحة المعارك منذ التدخل العسكرى الروسى فى 30 سبتمبر 2015 صدق هذه الرؤية. إذ تراجعت المعارضة فى مناطق عديدة وتمكن الجيش السورى من السيطرة على كامل الجزء الغربى من البلاد المأهول بغالبية السكان، خاصة مدينة حلب التى إستعادها بالكامل فى ديسمبر الماضى. ولم تعد المعارضة تسيطر سوى على أجزاء وجيوب بشرق البلاد الصحراوى، وهى مناطق أقل أهمية، والجنوب والشمال بالقرب من الحدود مع تركيا، وهى المناطق ذات الأغلبية الكردية. وقد فرضت هذه التطورات العسكرية نفسها على مختلف الأطراف الإقليمية والدولية المعنية بالشأن السورى والتى تؤيد هذا الطرف أو ذاك، وفى مقدمتها الولاياتالمتحدة والسعودية ودول الإتحاد الأوروبى. إذ لم تعد تطالب برحيل الرئيس بشار الأسد كشرط مسبق لأى تسوية، لأن هذا المطلب لم يعد واقعيا أو قابلا للتحقيق بحكم التطورات على الأرض. ولذلك لم يكن غريبا أن تبارك الرياض تحرك مصر لرعاية إتفاقات وقف إطلاق النار بين الحكومة والفصائل السورية خلال الأشهر الأخيرة. وهو ما يعنى تبدلا فى مواقف السعودية التى سبق وأن عارضت بشدة تأييد مصر لمشروع قرار روسى فى مجلس الأمن بشأن سوريا فى أكتوبر 2016 فسرته الرياض على أنه تأييد مصرى لحكومة دمشق. إن عودة مصر لممارسة دورا سياسيا فى النزاع السورى بهدف التوصل لتسوية سلمية كان أمرا مطلوبا بل وملحا نظرا للتداعيات الخطيرة التى يمكن أن تترتب على إستمرار النزاع العسكرى على وحدة البلاد وعلى إستقرار المشرق العربى الذى تشكل سوريا منه القلب. وكذلك نظرا للنتائج السلبية التى يمكن أن تتمخض عن تعدد التدخلات الخارجية، خاصة من دول مثل إيرانوتركيا لها أطماع واضحة ومعروفة فى المنطقة، وتستغل النزاعات والإضطرابات وعدم الإستقرار فى عديد من الدول العربية لكى يكون لها موطىء قدم يمكنها من خدمة مصالحها على حساب الشعوب العربية. إن قيام مصر بدور موازن لمثل تلك التدخلات كان ضروريا لتصحيح المعادلة. والدليل على ذلك أن تركيا إستاءت من رعاية القاهرة، بدعم روسى، لإتفاقات وقف إطلاق النار المحلية. وكانت أنقرة، بمساندة بعض فصائل المعارضة، ترغب فى إستضافة تلك المفاوضات، دعما لدورها فى سوريا. كما أن إيران لا تنظر بعين الرضا لعودة مصر للساحة السورية، وهى التى كانت تصول وتجول فيها بالنظر لمساندتها العسكرية القوية لنظام دمشق. وبالرغم من صعوبة المقارنة بين وضع الدولتين على الساحة السورية فى الوقت الراهن، فإن الدور المصرى يمكن أن يشكل على المدى المتوسط والطويل أحد البدائل المتاحة أمام دمشق لكى تتمكن من توسيع هامش حركتها الخارجية. ويفيد المطلعون على الشأن الداخلى السورى أن دمشق تبحث بالفعل عن تلك البدائل توطئة لفترة ما بعد إنتهاء الحرب الأهلية، بما يمنحها مرونة فى تحركها الخارجى والداخلى ويمنع وقوعها فى إسار هيمنة قوى بعينها. لمزيد من مقالات د. هشام مراد;