منذ ظهر تنظيم «داعش» والتساؤلات حوله لا تتوقف. فخلال فترة وجيزة انضم إلى التنظيم آلاف من الأوروبيين، للعيش والقتال فى «دولة الخلافة» التى أعلنها كوسيلة لجذب الباحثين عن «فردوس مفقود» على الأرض. لم تنته ظاهرة «داعش» بعد، وتراجعها الحالى فى سورياوالعراق لم يمنع المخرج الدرامى- الوثائقى بيتر كوزمينسكى من محاولة فهم ظاهرة التنظيم الإرهابى والمنضمين إليه، عبر تتبع حكايات بريطانيين توجهوا للقتال فى صفوفه فى سوريا. السؤال المحورى هو: لماذا ينضم هؤلاء الفتية والفتيات، الذين يعيشون فى الديمقراطيات الأوروبية، فى شروط اقتصادية واجتماعية وأمنية تعد من بين الأفضل على مستوى العالم، إلى تنظيم دينى-سياسى ينتمى للعصور الوسطى فى مقترباته وأفكاره وممارساته؟ ما هو عنصر الجذب الذى لم يضع الغرب يده عليه بعد لفهم ظاهرة «داعش»؟. يحاول كوزمينسكي، وحوله فريق كبير من الباحثين المتخصصين فى الإسلام السياسى ومنطقة الشرق الأوسط، الرد على ذلك السؤال الصعب، وأسئلة أخرى، عبر عمل درامي وثائقى عن «داعش» تحت اسم «الدولة» لا يهدف إلى تمجيد «داعش» من ناحية أو إثارة الإسلاموفوبيا من ناحية أخرى كما يقول كوزمينسكى. وفى عرض تمهيدى للصحفيين حضرته «الأهرام»، تبدأ الدراما فى ليل أحد أيام عام 2015، و»داعش» ما زال فى مرحلة التمدد، بأربعة بريطانيين يتسللون من منازلهم فى منتصف الليل للتوجه فى رحلة صعبة وسرية إلى سوريا التى تمزقها الحرب. تنتهى الرحلة بهم فى تركيا، ومنها يعبرون الحدود إلى شمال سوريا. الشخصيات الأربع الرئيسية هما شابان، جلال وزياد، وإمرأتان، اوشنا وشاكيرا. هذه الشخصيات تستند إلى حياة أشخاص حقيقيين توجهوا بالفعل إلى سوريا للعيش فى «دولة الخلافة» المتوهمة. وتتابع القصة الشخصيات الأساسية وهى تحاول التأقلم مع الحياة فى «دولة الخلافة». لكن الفكرة غير الواقع. فوحشية التنظيم سرعان ما تتضح للكثيرين، لكن لا مهرب الأن. فالخروج من «داعش» يعنى الموت. هذا العمل الدرامى لا يقوم على المزج بين الخيالى والحقيقى. ف «الدولة» هو عمل توثيقى بالأساس لظاهرة تطرف الأوروبيين. وهناك فريق كبير من المساعدين إلى جانب المخرج قاموا ببحث طويل ومعمق حول هؤلاء الذين انضموا إلى «داعش» وعادوا إلى أوروبا، أو من ظلوا فى سوريا وتحدث فريق العمل معهم عبر وسائل التواصل الاجتماعى. بعبارة أخرى، «الدولة» عمل درامى وثائقى يريد أن ينقل بصدق، بقدر الإمكان، حقيقة هذه الشخصيات التى تركت أوروبا إلى الشرق الأوسط كى تعيش «فكرة خيالية» فى أذهانها. ويقول كوزمينسكى إن العمل قائم على التمحيص والبحث الذى أجراه فريقه فى ظاهرة التطرف. وهو بهذا المعنى، أشبه ب«سيرة ذاتية» لهؤلاء الذين هربوا من أوروبا للقتال فى صفوف «داعش»، وإعترافاتهم قبل وبعد «داعش». فما الذى كشفته هذه الحوارات عن شخصيات هؤلاء الأوروبيين الذين يغادرون أوطانهم للقتال فى صفوف تنظيم دموى، وحشى لم يتورع عن أفدح الجرائم. هناك عاملان متضادان يلعبان دوراً فى تجنيد وإغراء البعض وهما «الشعور بالاستبعاد» فى الغرب من ناحية، و«الإنتماء» لدائرة أوسع من ناحية أخرى وهى «الأمة الإسلامية». وبين هذين التضادين، وجد البعض من هؤلاء الشباب الأوروبى نفسه منجذباً لدعاية «داعش» عن «جنة عدن» وسط القتل والدماء. لكن ذلك الشعور بالانتماء يُكشف الغطاء عنه سريعاً مع بدء الضربات الصاروخية عليهم، والعنف ضد النساء، وتجنيد الأطفال، وقتل المخالفين. ويقول كوزمينسكى إن أصعب شئ كان تصوير حالة الغبطة والتلهف لهؤلاء الشباب المتجهين إلى مدينة الرقة السورية، عاصمة الخلافة المفترضة للتنظيم، موضحاً أن تصوير الجزء الأول على وجه الخصوص كان حساساً لأنه يمكن أن يفهم على أنه «دعاية» لأديولوجية «داعش». وما زاد الأمور صعوبة أنه خلال العمل، وقعت هجمات لندن الإرهابية الأخيرة. ووسط حالة الغضب والحزن الشعبى العام فى بريطانيا، أصبحت محاولة فهم ظاهرة «داعش» بعيون الذين انضموا للتنظيم، مصدر قلق لكوزمينسكى وفريقه. فمحاولة الفهم قد تبدو «تعاطفاً» مع الظاهرة. ويوضح كوزمينسكى «بعد هجمات لندن الأخيرة. أول ما خطر ببالي: يا إلهى لماذا حدث هذا». ويوضح كوزمينسكى لعدد من الصحفيين الذين دعوا لمشاهدة العمل قبل بثه، إن أحد مخاوفه أن يؤدى «الدولة» إلى زيادة الإسلاموفوبيا المنتشرة فى الغرب أصلاً بسبب الهجمات الإرهابية على مدار السنوات الثلاث الماضية التى تورطت فيها عناصر من التنظيم، أو أعلن التنظيم مسئوليته عنها لاحقاً. ويتابع: «خلال العمل، كان أكثر تساؤلا حاضرا فى ذهنى هو: هل سيزيد ذلك العمل الدرامى العداء للإسلام. فهذا أخر شئ أريده». لكن هذا العمل ليس عن الإسلام. وما ترفضه بعض الشخصيات فى نهايته عندما تتكشف لها حقيقة «دولة الخلافة» ليس «الدين»، لكن «داعش» وممارساته الوحشية. فالإسلام كدين، لم يُناقش فى ذلك العمل. فما تقوم به «داعش» ليس إسلامياً فى شئ. وقد دمر التنظيم مجتمعين إسلاميين فى العراقوسوريا. أما هؤلاء الذين إنضموا ل»داعش» فهم أيضا ليسوا مجرد مجانين. فالجنون وحده لا يفسر تلك الظاهرة المعقدة. والعمل كله محاولة لإزالة التبسيط عن الظاهرة، وفهم التركيبة النفسية والعقائدية والشخصية والاجتماعية لهؤلاء الذين ينضمون إلى «داعش». ويلاحظ كوزمينسكى عبر البحث الطويل والمضنى الذى أجراه هو وفريقه على عناصر «داعش»، الذين عادوا للغرب ومسجونين حالياً والذين ما زالوا فى سورياوالعراق، أن إجابتهم على سؤال: لماذا توجهوا للعيش فى «دولة الخلافة»، تتضمن «الرغبة فى الحياة»، وليس الموت، على عكس ربما ما هو سائد. فالذين توجهوا إلى الرقة فى سوريا أو الموصل فى العراق، لم يذهبوا هناك لأسباب دينية. بل لأسباب اقتصادية واجتماعية بالأساس. وهذه النتيجة تنسجم مع دراسة جديدة قام بها مكتب الأممالمتحدة لمكافحة الإرهاب عن ظاهرة داعش. ووفقاً لنتائج الدراسة، فإن هؤلاء الذين يتوجهون للعيش والقتال إلى جانب التنظيم «لا يفهمون شيئاً عن الإسلام... إنهم يفتقرون إلى الفهم الأساسى والحقيقى للجهاد فى العقيدة الإسلامية». وتوضح الدراسة، التى أجريت بعد مقابلات مع 43 شخصاً، من بينهم 12 شخصاً عادوا إلى بلدانهم الأصلية فى أوروبا، أن غالبية العناصر الذين التحقوا ب «داعش» لديهم معرفة دينية سطحية، و«بعضهم لا يعرف حتى كيفية الصلاة على نحو صحيح». وخلال المقابلات، قال عناصر «داعش» إنهم لم يذهبوا إلى سوريا كى «يكونوا إرهابيين»، بل لتحقيق نوع من الحياة لم يستطيعوا أن يحققوه فى أوطانهم الأصلية. ووفقاً لمعلومات دراسة الأممالمتحدة، فإن هؤلاء يعانون حرماناً اقتصادياً وتعليمياً. وبعضهم عاطل عن العمل ومهمش اجتماعياً وسياسياً. وتخلص الدراسة إلى أن «الاعتقاد الدينى يؤدى دوراً ضئيلاً» فى تحفيز هؤلاء الشباب على الانضمام للمنظمات الإرهابية، فيما يلعب العامل الاقتصادى دوراً أكبر، بسبب وعود «داعش» الواضحة والصريحة لهؤلاء الشباب بالرواتب الكبيرة والمنازل والزوجات. ومن المؤكد أن «الدولة» سوف تثير ردود فعل متباينة فى بريطانيا عند عرضه العالمى على قناة «ناشونال جيوجرافيك» فى سبتمبر المقبل. فى النهاية ليس لدى كوزمينسكى رد مباشر على سؤال: لماذا انضممت إلى داعش؟. فالسؤال معقد جداً. أعقد كثيراً مما يبدو للوهلة الأولى. والعمل الدرامى- الوثائقى يهدف إلى إيصال الصورة عبر شهادات هؤلاء الذين اعتقدوا أن «الخلافة» المتوهمة هى حل لكل مشاكلهم العديدة فى الغرب.