سرت وحدى. لا أعرف من أين أو إلى أين؟!... منطقة غريبة كل الغرابة.. كأننى قد دُفعت إليها دفعًا.. و رحت أبحث عن بغيتى... تلفتُّ حول نفسى فى كل اتجاه... لا أحد... الطريق خال موحش.. أرضية الشارع مغسولة بالندى.. الضوء الشاحب يتسلل بين الأشجار الضخمة المخيفة باكيًا.. الأوراق الصفراء الهالكة تتجمع أسفل الأشجار.. الأغصان تتشابك مع بعضها البعض كخيوط عنكبوت ضخم.. دقات حذائى تتردد عالية.. كأنها تطرق أبواب الليل بشدة... لكنها مغلقة بإحكام شديد... أسرعت.. و أسرعت الدقات.. دلفت إلى شارع ثان و ثالث... لا أحد... اصطدمت أذناى بعواء كلب مسعور... العواء يأتى من خلف الأشجار الكثيفة... توقفت قليلًا لأتأكد من صدق حواسى.. عندما تأكدت من ذلك أسرعت الخطو.. و البحث.. ثم تركت أقدامى للريح فنما الرعب و الهلع... عرّجت على شارع جديد. رأيت شجرة ضخمة كئيبة.. فجلست فى حضنها أبكى و أحلم... ثم عاودت البحث... نبهت كل حواسى لما يدور حولى... بما فيهم الحاسة السادسة... سمعت صوت حركات خفيفة يأتى من مكان قريب... فشعرت بالألفة تدب حثيثًا إلى صدرى الملتهب اللاهث... توجهت نحو الصوت... فانتفضت فزعًا... أنقاض بيت مهدوم... بين الأنقاض تتناثر بعض الأعضاء البشرية ... و الجماجم البشرية الخاوية العارية... و القطط!... تتجمع حول الوليمة سعيدة.. مواؤها كترانيم أرواح القبور الهائمة الضالة.. ضوء خافت ساحر ينبعث من عينيها ليخترق خلايا جسدى النحيل المبلل بالعرق.. تغرس أنيابها الحادة فى لحم الأعضاء البشرية... فتتساقط قطرات من الدم على الفراء الأبيض الناعم... انتفضت ألهث بين الشوارع ... أتلفت إلى الخلف من حين لآخر... حاولت الصراخ و طلب النجدة... ضاع صوتى فى ضجيج القلب المرهق... جاهدت كثيرًا لكى أخفف من ارتعاش خطواتى... نظرت إلى السماء لأسترشد بالنجوم... فلم أجدها... فروع الأشجار الرفيعة المتشابكة حالت بينى و بينها. كأنها تأبى إرشادى... الحق معها... كيف ترشدنى و أنا لم أسجد لربها قط؟ فى آخر الشارع رأيت شبحًا واقفًا.. إنسان ربما.. أو ملاك جاء لإنقاذى... هذا ما شعرت... فتتبعته أستأنس به... دخل الشبح شارعًا جديدًا... و رأيت من بعيد سورًا فاتح اللون!... اقترب الشبح من السور و دخل.. و اقتربت أنا... الأشجار الخضراء المزهرة خلف السور... رائحتها زكية تشرح صدرى و تملأنى بالأمل... نغم موسيقى هادئة شجية.. إنه القصر!... نعم قصر جميل هادىء.. آمن من الخوف خال من الجوع... فهتفت فى أعماقى بنشوة عارمة... أخيرًا وجدت ضالتى؟ توجهت نحو الباب... طرقته بدقات خفيفة... بلا جدوى.. ازدادت دقاتى قوة... لا مجيب.. فطرقته بكل ما فىّ من قوة الحب و الصدق و الضياع... فتحطم الباب الحديدى أمامى و سالت الدماء من يدى... قفزت فوق أنقاض الباب المحطم... رائحة الورود زكمت أنفى... الضوء الآمن يأتينى من شبابيك القصر... شعرت كأنه يضئ صدرى و ينير طريقى... إنه لم يُخلق إلا لى أنا... دلفت من الباب المفتوح... التحف الجميلة تسحر النفوس.. الألوان الهادئة متناسقة... الرسومات على السجاد رائعة... طربت لصوت دقات متتابعة لذيذة... بالتأكيد دقات قلب الأميرة... اشتقت كثيرًا لمثل هذه النبضات المليئة بالحياة... تقدمت أبحث عن الأميرة صاحبة القصر... لهثت أنفاسى بعد أن صعدت سلالم كثيرة و هبطت سلالم أخرى ... وجدت أمامى بابًا مغلقًا... مؤكد حجرة الأميرة.. أميرتى أنا... مددت يدى أفتح الباب بقلب يزغرد فى حب و نشوة... فرأيتها فاتنة ساحرة... مسجاة فوق فراشها... تتكفن بملابس حريرية مطرزة بالذهب الخالص... فجلست بجانبها أتأمل رقتها و جمالها... أنتظر... حتى تعود إليها الروح...