هناك حديث متواتر فى اجتماعات المثقفين عن الحاجة إلى «نخبة جديدة»، والبعض يزيد بالحديث عن «نخبة شابة جديدة»، كان آخرها لقاء المثقفين الذى عُقد فى مكتبة الإسكندرية الأسبوع الماضي. الحديث فى ذاته غير جديد، فقد ترددت أصداؤه طيلة السنوات الست الماضية، وزادت وتيرته عقب صعود التيار الإسلامى إلى مواقع اتخاذ القرار فى السلطتين التنفيذية والتشريعية، وما أعقبه من شعور بعدم قدرة الكوادر التى ملأت المواقع المختلفة على تسيير الأمور، يضاف إلى ذلك أن التيارات اليسارية والليبرالية التى علا صوتها فى تلك الفترة، وامتلكت قدرة على التواصل الكثيف بوسائل الإعلام، لم تستطع أن تقدم قيادات تتولى مقاليد الأمور فى مؤسسات الدولة. سار حديث عن الحاجة إلى »نخبة جديدة« بل، والأكثر ضراوة، تحدث العامة بقدر من الحنين إلى النخب التى سبقت 25 يناير، وامتدت المقارنات إلى كل المجالات، ذكرنى ذلك بالحالة التى تناولتها كتب التنمية عن الدول النامية التى استقلت عن الاستعمار الغربى فى الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، حيث ساد اعتقاد لدى قياداتها فى البداية أن رحيل الاستعمار كفيل بإنهاء المشكلات، لكنه عندما رحل، لم تظهر القيادات صاحبة الكفاءة التى تتولى إدارة المؤسسات العامة، وتراجعت مؤشرات التنمية، وظهرت مشكلات عديدة، وهو ما دفع الباحثين إلى الحديث عن مصطلح كان جديدا فى وقتها هو »التنمية البشرية«، وكان من بين طياته الاهتمام بتكوين كوادر أو نخبة جديدة من خلال التأكيد على التعليم، والتدريب، والصحة. عندما تتحدث «نخبة قائمة» عن الحاجة إلى »نخبة جديدة« يعنى ذلك اعترافا مقدرا بأنها لم تعد قادرة على قيادة المجتمع إلى الأفضل أو على أحسن تقدير، تريد «نخبة جديدة» إلى جوارها. الأسباب التى أدت إلى هذا الضجر من النخبة القائمة، والدعوة إلى نخبة جديدة متعددة. هناك إحساس بأن النخبة التى يفترض أن تكون فى طليعة المجتمع تشده إلى الأمام، وتدرك مشكلاته على نحو أفضل، تعانى ذاتها من ضبابية الرؤية للمستقبل، لا تقدم رؤى للتعامل معه، تكتفى بالتقليب فى الماضي، ولا تطرح مقترحات أو بدائل سياسات، وتغرق فى الشجار، وتعمق الاستقطاب على حساب نشر ثقافة التعددية. تختلف، وهذا أمر طبيعي، لكنها تدير خلافاتها على نحو غير رشيد. تحركها المصالح، وهذا أمر متوقع، لكن الخاص أحيانا يغلب على العام، والذاتى يعلو على الموضوعي. نخبة مركزية فى تركزها الجغرافي، وفى تدوير المنافع فيما بينها، وفى محدودية التواصل بين الأجيال، مما يعوق تحقيق مفهوم »العدالة الثقافية». وهناك مؤسسات يٌفترض أن يكون لها دور فى تشكيل النخبة، مثل الأحزاب السياسية، تعانى جميعها من مشكلات داخلية، وضعف القدرة على الحركة أو افراز كوادر فى الحياة العامة. بالفعل، مصر تحتاج إلى »نخبة جديدة«، ولم يؤد الحراك الذى حدث خلال السنوات الماضية فى إفراز قيادات شابة، والسبب يعود إلى غياب التكوين بعد عقود من تجفيف منابع العمل السياسي، وتردى مستوى التعليم، وغياب الفرص المجتمعية فى التدريب والعمل. ولكن هذا لا يمنع من أن هناك «نخبة شابة» لا يعرفها الإعلام، ولا يسلط الضوء عليها، ولا تنشغل بها الأحزاب التى تبحث عن نشطاء أو عناصر حركية فى الانتخابات.. فى إبريل الماضي، دعت السفارة البريطانية إلى حفل خاص لخريجى الجامعات البريطانية من المصريين، وأغلبهم حصلوا على منح دراسية، وقد شارك فيه عدد من الشخصيات العامة التى حصلت على دراساتها العليا من بريطانيا. اللافت للنظر أن عددا من الخريجين الشباب فى تخصصات متنوعة ما بين اقتصاد، وتكنولوجيا اتصالات، وهندسة، وتنمية، وإدارة مالية، وهكذا، لهم خبرات جادة، وبصمة مهمة، وبعضهم الآن يتولى مواقع قيادية فى مؤسسات عامة.. هذه نوعية من النخبة الجديدة التى لا يهتم بها كثيرون ممن يقصرون مصطلح النخبة فى منتجى الأدب أو ممارسة السياسة، لكن لا يرونهم فى مجالات مهمة يحتاج إليها المجتمع فى سعيه نحو التقدم. وإذا كانت المجتمعات تتقدم بثلاثية مهمة: المؤسسات، الأفراد، الأفكار، فإن التقدم الحقيقى ليس بالجدل السياسي، أو احتلال المنصات الإعلامية، ولكن بامتلاك الخبرات الفنية والإدارية الرفيعة التى تستطيع إدارة المؤسسات العامة. وهناك مقولة مهمة سطرها »فرنسيس فوكوياما« المفكر الأمريكى الشهير، مفادها أن اليابان بعد الحرب العالمية الثانية لم تبن بالمال فقط، ولكن بٌنيت على يد قيادات تولت المؤسسات العامة امتلكت الفكر، والرؤية، واستطاعت أن تنشر ثقافة ناهضة فى العمل. لمزيد من مقالات د. سامح فوزى ;