يقول المؤرخ الكبير ول ديورانت: «إن التاريخ يستنتج». وهذه المقولة توضح لنا أن ليس كل من كتب قصة فى كتاب قديم نعتبره مؤرخا، وأن هناك من زيف التاريخ إما جهلاً أو قصداً مدفوعاً بآراء شخصية أو مدفوعاً له ليشوه حقائق التاريخ. ثم يأتى من ينقل التاريخ المزيف ويعلمه ليصير حقيقة راسخة فى عقول الآخرين، ومع الزمن تختفى الحقيقة ويشوه التاريخ ويسقط أبطاله مشوهين بسهام الأقلام المسممة. ويموت هؤلاء الأبطال على صفحات التاريخ ويدفنون فى قبور الكلمات والحروف إلى أن يأتى من يخرج الحقيقة من قبورها ويعيد لهؤلاء الأبطال شرف تاريخهم. ولكن قد لا يوجد من يبحث ويدقق ويعلم فتظل الحقيقة غائبة عن العقول مدفونة بين السطور. لذلك يجب قبل أن نقرأ التاريخ أن نعرف المصادر ونفهم منهج المؤرخين ثم نستنتج التاريخ. وصفحة اليوم من هذا اللون فى تاريخنا الذى ستجد فيه آراء مختلفة بين المؤرخين حين هدم معبد السيرابيوم بالإسكندرية، وأشاع بعض المؤرخين أن مكتبة الإسكندرية قد حرقت فى هذا الحدث، متهمين البابا ثاؤفيلس والأقباط بحرق المكتبة. والبابا ثاؤفيلس انتخب عام 376م وهو أحد تلاميذ البابا أثناسيوس العظيم. وكانت مصر تتمتع بمكانة كبيرة عند الإمبراطور ثيؤدوسيوس حتى إنه زار مصر وزار البابا وقد ساعد فى بناء كنائس كثيرة، وقد كان هذا العصر من أكثر العصور بناءً للكنائس والأديرة. وبينما كان يبنى كنيسة فى الإسكندرية وجد خنادق وثنية وكشف للشعب على طريقة العبادة السرية للوثنيين التى كانت تتسم بالدم والفجور، فتحول كثير من الوثنيين إلى المسيحية خجلاً من تلك الأمور. واستغل الفيلسوف الوثنى أولمبياس هذه الحادثة وأضرم ثورة اندفع فيها الوثنيون إلى قتل المسيحيين فى الشوارع وقد اختطفوهم ودخلوا بهم إلى معبد الإله سيرابيس الوثنى وذبحوهم قرابين للإلهة. وظلوا على هذه الحال يخرجون من المعبد يختطفون الأقباط ثم يدخلون متحصنين فى المعبد الذى كان بمثابة قلعة كبيرة يصعب اقتحامها وقد كان مبنياً فوق ربوة ترتفع ثلاثين متراً فوق سطح الأرض. والسيرابيوم كان أكثر من مبنى ملاصقين بعضهم بعضا، معبد الإله سيرابيس، ومبنى لكهنة الوثنيين، ثم مكتبة الإسكندرية. وكان المعبد من الداخل به تمثال ضخم لسيرابيس يلمس كتفاه الجدران تم صنعه من المعدن والخشب. ووضعوا حجر مغناطيس كبيرا فى سقف المعبد، وعندما يضعون التمثال فى وسط المعبد يرتفع معلقاً فى الهواء فيظن البسطاء أنها معجزة. وقد كان تخرج من التمثال أصوات مبهمة يظن هؤلاء أنها كلمات سرية للإله سيرابيس، وقد أشاع كهنة الوثنيين أنه إذا تحطم هذا التمثال، ستنشق الأرض وتبتلع البشر جميعاً. ولم يكف الوثنيون فى تلك الأيام عن ذبح الأقباط متحصنين فى المعبد فأرسل البابا إلى الإمبراطور يخبره بالكم الهائل للشهداء الذين ذبحوا على يد الوثنيين فى معبد السيرابيوم، فأصدر الإمبراطور أمراً بهدم معبد السيرابيوم وهدم كل المعابد الوثنية فى الإمبراطورية. وهدمت بالفعل غالبية المعابد الوثنية ويقول المؤرخ روفيموس الذى كان فى القصر الإمبراطورى فى كتابه التاريخ الإكليرى الجزء الثانى فقرة 23: إن الإمبراطور قد أصدر قراراً بهدم معبد السيرابيوم إلا أن اعتقاد الوثنيين بأنه إذا ما لمست يد إنسان التمثال بعنف ستنشق الأرض وتسقط السماء فهذه القصة جعلتهم يتوافدون إلى المعبد، وعندما وقف أحد الجنود وأمسك آلة حادة وضرب التمثال بقوة، السماء لم تسقط، والأرض لم تنشق وتم تدمير كل شيء فى المعبد. ومن المضحك أن الأصوات التى كانت تسمع من التمثال هى أصوات فئران كبيرة كانت تسكنه خرجت بمجرد سقوطه مما أدى لهياج الوثنيين، خاصة بعد تحطيم كل أساطيرهم وفضحها فهربوا خارجاً وأضرموا النار فى جزء من مكتبة الإسكندرية ولكنها لم تلتهمها كاملة فأسرع الأقباط إلى إخمادها. ومن الغريب أن نجد بعض المؤرخين يتهمون الأقباط بحرق المكتبة بالرغم من شهادة مؤرخين معاصرين مثل روفيموس وسوزومين وثيؤدوريس الذين شهدوا عكس ذلك. بل هناك شهادات بوجود المكتبة بعد هذا العصر فيقول الكاتب أفتنيوس فى كتابه description de lacropole dAlexandrie إن مكتبة السيرابيوم كانت مفتوحة للجمهور طوال النهار، وكانت دعوة مستمرة لأهالى المدينة أن يستقوا من منابع الحكمة. والمؤرخ أوروز الذى عاصر الإمبراطور ثيؤدوسيوس الصغير (401-450م) أى بعد هذه الأحداث بخمسين سنة أنه رأى بعينيه المكتبة ويصفها وصفاً دقيقاً مما يؤكد أنها لم تحرق. ويقول أمنيوس الفيلسوف الإسكندرى الذى عاش فى القرن السادس إن مكتبة السيرابيوم بالإسكندرية تحوى كتبا ويصفها بالاسم. وكان الفيلسوف أمنيوس معلماً ليوحنا الغارمتيكى الذى كان يشغل منصب أمين مكتبة الإسكندرية عند الفتح العربي. كل هذا يؤكد أن الأقباط لم يحرقوا المكتبة وكيف يحرقوها وقد حافظوا عليها طيلة القرون السابقة، بل كانت تخدم مدرسة الإسكندرية اللاهوتية. والأكثر من ذلك أنها كانت تحوى النسخة الأصلية للترجمة السبعينية للعهد القديم، كما كانت تحوى مخطوطات العهد الجديد منذ القرن الثاني، مما يؤكد حرص الأقباط على المكتبة والفكر والثقافة. ويذكر بعض المؤرخين أيضاً أنه فى تلك الأحداث هدم الأقباط معابد الفراعنة وهذا لم يحدث بدليل وجود ممارسة الأقباط صلواتهم داخل المعابد الفرعونية ولم يهدموها. وفى سنة 1902م زار مصر راهب فرنسى اسمه ميشيل جوليان وقد زار المعابد المصرية القديمة وكتب: «ان المصريين حين اعتنقوا المسيحية، لم يهدموا معابد إلهتهم القديمة بل حولوها إلى كنائس كما فى معبد دندرة والأقصر والكرنك». بل أكثر من ذلك أن معبد الملكة حتشبسوت فى وقت من الأوقات قد سكنه رهبان وتحول إلى دير حتى أطلق عليه إلى الآن الدير البحري. مما يؤكد احترام الأقباط لتاريخهم وحضارتهم القديمة وفكر أجدادهم. كاهن كنيسة المغارة الشهيرة بأبى سرجة الأثرية لمزيد من مقالات القمص أنجيلوس جرجس