فى بلاد المحروسة كان الدعم الحل السحرى الذى تبناه من تولوا إدارة الاقتصاد لمعالجة اختلالات سياساتهم الانفعالية بعد أن قفزوا إلى السلطة فى مطلع خمسينيات القرن العشرين، يفتقرون للخبرة. وكان فى أصله آلية لعلاج آثار حالات استثنائية، الحروب والكوارث، وفيها توجه الموارد لمواجهة مطالب هذه الحالات، فيختل تغطية الحاجات الأساسية للمواطن، وتقل الكميات المطروحة منها، فتقفز الأسعار بما يتجاوز قدرة المواطن، فتتدخل الحكومات لتحمل الفرق بين تكلفة الإنتاج وقدرة المواطن الشرائية، بدعم، عبر منظومة التموين، حتى تعود الأمور إلى طبيعتها، وبانتهاء الحالة الاستثنائية، يرفع الدعم، وتختفى وزارة التموين وتتبنى الدولة سياسات تدفع بالإنتاج، زراعة وتصنيعا، لإعادة التوازن مجدداً. العلاج المؤقت تحول إلى خيار دائم، وتوالت إخفاقات إدارة الاقتصاد، وبقى الدعم لمغازلة الطبقات الفقيرة بل والمتوسطة، على حساب التنمية والتطور، وجاءت المغامرات العسكرية، لتبتلع مواردنا، فى الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، وبدلاً من البحث عن سياسات اقتصادية جادة وحازمة، طرقنا باب الاقتراض، ليتضخم الدين الخارجى والدين الداخلي، ونقع فى دوامة خدمة الديون، ويزيد الكارثة التحول من اقتصاد الإنتاج إلى اقتصاد الريع، وتتولد طبقة الوسطاء والسماسرة، تحت حماية طبقة كثيفة من الفساد، المنبثة فى مفاصل الدولة والمجتمع. فى هذه الأجواء الملتبسة والمرتبكة، تأتى قرارات الغاء الدعم، يناير 1977، والتى كانت تحمل رؤية اقتصادية صحيحة كان مهندسها الدكتور عبد المنعم القيسوني، بخبراته الكبيرة، الأكاديمية والسياسية والوزارية أيضاً، وكان يرى أنها تأتى ضمن حزمة من الخطوات تسعى للإصلاح الاقتصادى وسد عجز الموازنة وعلاج التضخم وإصلاح سعر الصرف، ومنها الحد من زيادة السكان والتوسع العمراني، وفتح الباب للاستثمار الأجنبى والعربى والمحلى وزيادة الإنتاجية. لكن الصراع السياسى المحتدم وقتها يقفز فوق القرارات الإصلاحية الحتمية التى لم يمهد لها بشكل صحيح، فجاء الرد الشعبى رافضاً وعارماً فيما عرف بانتفاضة الخبز، وتتقدم المناورة السياسية على الاقتصاد، ويسارع الرئيس قبل مضى 24 ساعة إلى إلغاء القرارات وعودة الأسعار إلى ما كانت عليه، لتستمر دوامة الخلل الاقتصادي. ويزداد الأمر سوءاً فى بيات سياسى بامتداد عقود مبارك الثلاثة، والتى تشهد تحالفات مع قوى الإسلام السياسى تنتهى إلى تصعيدهم ليجدوا مكاناً فى مفاصل سلطات الدولة الثلاث، وتتسارع خطى التحول التام إلى اقتصاد الريع، ومعه تزدهر دوائر الوساطة والسمسرة، ويتصدر الفساد المشهد، وتزداد الفجوة بين الطبقات لنرتد إلى ما هو أسوأ من مجتمع النصف فى المائة.وتجمعت إرادات الغضب مع اختلاف دوافعها، لتنفجر فى 25 يناير 2011، وينتفض الشارع مجدداً فى 30 يونيو 2013 ليتجاوز مجرد المطالبة بحقوق جسدها شعار يناير «عيش، حرية، عدالة اجتماعية»، وصار الوطن ووجوده فى مرمى التفكيك، وصار مهدداً بإعادة إنتاج نماذج دول الجوار التى وقعت صريعة التفتيت، ضمن رؤية جديدة طرحتها خريطة الشرق الأوسط الجديد، لتزاح الجماعة الحاكمة عن الحكم، وتبدأ دورة جديدة من الصراع تقودها الجماعة وحلفاؤها فى الدوائر الداخلية والإقليمية والدولية، لاستعادة حلم الخلافة الذى سقط مع سقوطها. كان الاقتصاد يزداد انهياراً، وفجوة العجز فى ميزان المدفوعات تتزايد، وتأتى قيادة 30 يونيو لتواجه واقعاً مهترئا، يحمل كل ما خلفته التجارب التى عبرنا عليها، وما استجد من تحالفات جديدة مناوءة وعنيفة، وتسترد مصر موقعها فى الدوائر القارية والإقليمية والدولية والأممية، وتنتبه لمواجهة اختلالات الاقتصاد، وتعود مجدداً لمجابهة غول الدعم، وتملك جسارة التحدى وتسير فى اختيارات صعبة، تصطدم مع واقع تحمل الكثير، تعيد بناء البنية التحتية التى بدونها لا يمكن أن تقوم الصناعة ولا تجد الاستثمارات ما يغريها بالمشاركة، وبالتوازى تسد ثقوب استنزاف الموارد، وعلى رأسها منظومة الدعم، ذلك الاستثناء التى تحول إلى قاعدة راسخة. لم يكن بين الاختيارات إغفال حق الأجيال القادمة فى أن نحفظ لها نصيبها فى أساسيات الموارد القومية، وكان الانحياز لاجتياز عنق الزجاجة مع كل معاناته لحساب تلك الأجيال القادمة، وتتوالى إجراءات العلاج المر. وهذه الإجراءات الحتمية تحتاج للعمل فى محاور متوازية بإعادة الحياة لمنظومة الإنتاج وتطويرها، الصناعة والزراعة والتصنيع الزراعي، ودفع عجلة التصدير بقوة، ومراجعة منظومة الاستيراد لمواجهة اختلالاتها، مع تثوير منظومة التشريعات لدعم طاقات الشباب الإنتاجية، وتحفيز انشاء الكيانات التسويقية المتخصصة فى السوق المحلية والأسواق الإقليمية والدولية لمزيد من مقالات د. كمال زاخر