كما نعرف كلنا.. وكما عرفت الدنيا من حولنا.. من قبل ومن بعد.. أن الإسلام نقصد دين الاسلام.. لم يدخل بلدا أو قرية أو مدينة أو دولة من الدول بحد السيف.. ولكن بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة.. والإقناع والاقتناع والإيمان الصادق الحق.. ولكن لعل أهم سؤال الآن علي الساحة ونحن نعيش أمام الشهر الفضيل.. شهر التقي والصلوات والبركات هو: كيف دخل الإسلام مصر؟ تعالو معا نفتح الملفات: بعد أن قرأ المقوقس عظيم قبط مصر وواليها من قبل قيصر روما.. والتي قلنا من قبل هنا.. كلماتها نصا وروحا.. قال المقوقس: إني قد نظرت في أمر هذا النبي فوجدته لا يأمر بمزهود فيه, ولا ينهي عن مرغوب فيه, ولم أجده الساحر الضال, ولا الكاهن الكاذب, ووجدت معه آية النبوة بإخراج الخبء, والإخبار بالنجوي, وسأنظر.. ثم دعا كاتبا له يكتب بالعربية, فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم.. لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط: سلام عليك, أما بعد: فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه, وقد علمت أن نبيا جاء, وكنت أظن أنه يخرج بالشام, وقد أكرمت رسولك, وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم, وبكسوة, وأهديت إليك بغلة لتركبها, والسلام عليك.. ولم يزد المقوقس علي هذا ولم يسلم, يعني لم يعلن اسلامه.. والجاريتان هما: ماريا وسيرين, والبغلة هي: دلدل التي بقيت حية إلي زمن معاوية بن أبي سفيان. والأخبار اقصد كتاب الأخبار يذكر لنا حسن استقباله لحاطب بن أبي بلتعة حامل رسالة رسول الله صلي الله عليه وسلم, وحسن ضيافته إياه في الإسكندرية عدة أيام.. ثم ذلك الأدب الجم في صياغة الرد الذي لم يحمل رفضا صريحا لنبوة محمد, وإنما صيغ في لباقة وأدب, أعرب من خلاله عن ظنه بأن النبي المرتقب يخرج من الشام. ولكي يكمل المقوقس إخراج الموقف إخراجا حسنا فإنه قد حمل حاطبا بعض الهدايا القيمة التي ذكرناها وهي في جملتها جاريتان صاحبتا مكانة عظيمة في القبط, هما ماريا وأختها سيرين وثياب من قباطي مصر وبغلة عرفت في كتب السيرة باسم دلدل قيل إنها أول بغلة رؤيت في الإسلام, وحمار ذكر في أكثر المراجع باسم يعفور وفي أقلها باسم عفير, وعبد اسمه مايور أعتقه رسول الله صلي الله عليه وسلم, وعسل واقداح من قوارير.. ................. ................. ومن المعروف تاريخيا أن ماريا وأختها سيرين قد اعتنقتا الإسلام قبل وصولهما إلي المدينة, وعند وصولهما إلي المدينة تزوج رسول الله صلي الله عليه وسلم بماريا, وأنجبت له ولده إبراهيم, فأوجدت نسبا ثانيا بين آل إبراهيم عليه السلام وبين مصر. وأما أختها سيرين كما قلنا هنا.. فقد أهداها رسول الله صلي الله عليه وسلم إلي حسان بن ثابت صاحبه وشاعره تكريما له ولها, فأنجبت له إبنه عبدالرحمن. ويجيء الحديث النبوي الشريف فيؤكد اصهار الإسلام إلي مصر في قوله صلي الله عليه وسلم: إن الله سيفتح عليكم بعدي مصر, فاستوصوا بقبطها خيرا, فإن لهم فيكم صهرا وذمة. وتتحقق نبوءة النبي صلي الله عليه وسلم, فلا تكاد تمضي سنوات تسع علي وصول ماريا الي أرض بلد الرسول.. حتي يفتح المسلمون مصر سنة عشرة هجرية. أما أصل خطاب الرسول إلي المقوقس فقد تم العثور عليه كما قلنا.. في كنيسة قرب بلدة أخميم في صعيد مصر.. وهو محفوظ بعناية كاملة في متحف توب قابي بأسطنبول..! وأسلمت ماريا وسيرين لرسول الله صلي الله عليه وسلم, كما قلنا فاصطفي ماريا لتكون له زوجة, ووهب اختها سيرين لشاعر المسلمين حسان بن ثابت. وضرب الرسول علي ماريا الحجاب, وأنزلها بدار الحارثة بن النعمان, بالقرب من مساكن زوجاته, ولكن زوجاته اللاتي كن قد بلغت بهن الغيرة مبلغها من هذه الوافدة الغريبة البيضاء الجميلة, لم يستطعن أن يتركنها تعيش بالقرب منهن في سلام, فنقلها رسول الله إلي مكان يعرف بالعالية محاطا بالكروم, في ضاحية من ضواحي المدينةالمنورة. وصار يذهب إليها بين الحين والحين. ...................... ...................... ولكن يبقي السؤال كيف استقبلت زوجات الرسول هذه الشقراء الجميلة القادمة من مصر؟ المؤرخون العرب قالوا لنا: لم تهدأ غيرة زوجات النبي عن ماريا, بل كانت عائشة أحب زوجات النبي صلي الله عليه وسلم إلي قلبه تقول: ما غرت من امرأة إلا دون ما غرت من ماريا, وذلك لأنها كانت جميلة جعدة, وأعجب بها الرسول صلي الله عليه وسلم كثيرا.. وقالوا إن رسول الله قد أحبها وكانت قريبة حقا من قلبه.. أما حينما أسرت ماريا إلي النبي بنبأ حملها.. فقد اغتبط النبي لهذا النبأ أشد الأغتباط, وسرت نفسه أشد السرور.. ولما عرفت زوجاته ذلك لم يملكن إلا أن اغتظن وحزن واستكثرن علي ماريا الجارية المصرية أن تحمل من دونهن, وتلد للنبي الولد الذي لم يستطعن جميعا أن يلدنه له. وكان من نتيجة هذه الغيرة أن سارت الشائعات والأكاذيب في المدينة عن ماريا الجارية القبطية, وخادمها القبطي مايور, الذي يقضي لها حاجاتها! وانتشرت الشائعات حتي وصلت إلي أذني الرسول... وإلي نفسه.. وإلي قلبه... آه... كم نالت هذه الشائعات التي تتهم ماريا من نفس الرسول.. وكم قاست روحه من وقعها الأليم.. حتي جاء من يفندها, وينفيها عن ماريا نفيا قاطعا.. وقد جاء بالخبر اليقين بن عم الرسول وأول صبي دخل في الاسلام.. علي بن أبي طالب نفسه الذي تعهد للرسول أن يأتيه بالخبر اليقين. وكان الخبر الذي جاء به إلي الرسول ابن عمه هو أن مايور خادم ماريا عبد خصي!! وسري عن نفس النبي, وداوم علي رعايته لماريا, والعناية بها, حتي أتمت أشهر حملها.. ووضعت ماريا إبراهيم. وجاء إلي النبي مولاه أبو رافع يبشره بولادة إبراهيم, فأكرمه, وأكرم مولاته سلمي زوجة أبي رافع التي أشرفت علي ولادة إبراهيم... وتصدق علي كل فقير ومسكين من أهل المدينة. ......................... ......................... أما حينما نزل جبريل علي النبي يقول له: السلام عليك يا أبا إبراهيم... فقد أثلج صدر النبي, وطابت روحه, وانشرحت نفسه, وظهر البشر علي وجهه. وعهد النبي بابنه- كما قلت هنا من قبل- إلي مرضع, ودفع إليها عددا من الماعز لترضعه لبنها, وبقي يلحظ نموه بفرح وسرور يوما بعد يوم. وكان هذا الوليد الذي رزق الله به رسوله هو السلوي له بعد أن مات جميع أولاده من خديجة, ولم يبق له منهم غير ابنته فاطمة. ونما إبراهيم نموا طيبا, كان داعيا لغبطة الرسول وفرحه, وكان سببا لأن يحمله بين يديه, ويذهب به إلي زوجته عائشة ليريها إياه, ويسألها فرحا: يا عائشة... ألا تلاحظين الشبه بيني وبينه ؟ ولكن عائشة التي كانت تلذعها الغيرة لم تملك نفسها من أن تجيب زوجها بجفوة: ما أري بينكما شبها...! فلما سألها الرسول الكريم عما تلاحظه من حسن نمو الطفل, وحسن مظهره؟... أجابت: إن من كان يتغذي بما يتغذي به إبراهيم يحسن نموه, ويحسن مظهره.. إلا أن ماريا والرسول الكريم لم ينعما بإبراهيم بعد ذلك طويلا, فإن إبراهيم لم يلبث أن مرض, واشتد به المرض حتي خيف علي حياته وبات أهله من حوله يسهرون عليه, يمرضونه, ويخففون عنه, ولكن دون جدوي, فقد ازداد المرض واشتد حتي عرف أن إبراهيم الذي قرت به عين ماريا وعين الرسول لن يعيش بعد ذلك, ولن يمهله الموت طويلا. واستدعي النبي إلي إبراهيم علي عجل, وإبراهيم يجود بنفسه الأخير وهو علي حجر أمه, فأخذه النبي, ووضعه علي حجره, وقلبه يتفطر أسي وحزنا وهو يقول: - يا إبراهيم, إنا لن نغني عنك من الله شيئا.. وجاد إبراهيم بروحه, والرسول تذرف عيناه بالدموع, وماريا وأختها سيرين تبكيان وتصيحان... فلما بات إبراهيم جسدا لا حراك به انهمرت الدموع من عيني الرسول وقال: يا إبراهيم لولا أنه أمر حق, ووعد صدق, وأن آخرنا سيلحق بأولنا لحزنا عليك, بأشد من هذا.. وإنا يا إبراهيم عليك لمحزونون. وأقبل النبي علي ماريا... الأم الثكلي, يواسيها عن ابنها قائلا: إن له لمرضعا في الجنة. وكسفت الشمس يوم موت إبراهيم.. فقال المسلمون في ذلك: ماكسفت الشمس إلا لموت إبراهيم. وحرمت ماريا من ولدها الذي قرت به عينها حينا, ثم لم تلبث إلا القليل حتي حرمت من الرسول نفسه.. فقد مات الرسول وخلف ماريا, لا يعزيها إلا أنها كانت أما لولد الرسول ولا يواسيها هي وأختها في غربتهما إلا وصية الرسول بهما, إذ قال يوصي المسلمين: استوصوا بالقبط خيرا, فإن لهم فينا ذمة ورحما. وكما قال: الله عز وجل في أهل الذمة... أهل المدرة السوداء, السحم الجعاد, فإن لهم نسبا وصهرا. وماتت ماريا بعد نحو خمس سنوات من رحيل رسول الله, فحشد لها الفاروق عمر بن الخطاب الناس, فشيعوها حتي مثواها بالبقيع... وعمل المسلمون بوصية الرسول, فاستوصوا بالقبط خيرا, فكانوا وإياهم إخوانا أعزاء... حتي يومنا هذا... وحتي يرث الله الأرض ومن عليها.{ وهذه هي حكاية دخول الاسلام الي مصر.. بدأت بخطاب من سيد الخلق.. إلي المقوقس.. فزواج فتح الطريق لخيول المسلمين الفاتحين بالحق.. لا بحد السيف. Email:[email protected] لمزيد من مقالات عزت السعدنى;