لا أحد ينكر أهمية بناء المنشآت والعمارات والطرق والكبارى وإضاءة المدن والعشوائيات.. هذه انجازات لا احد يناقشها فهى الأعمدة التى يقوم عليها بناء المجتمع.. ولكن هذه المنشآت المعمارية لا يمكن أن تغنى عن بناء العقول خاصة إذا كانت هذه العقول قد تعرضت عبر سنوات طويلة لعمليات تخريب مقصودة بالفنون الهابطة والسلوكيات المريضة.. وفساد واضح فى أخلاقيات المجتمع.. كلنا يساند سياسة الدولة ممثلة فى رئيسها عبد الفتاح السيسى وهو يسعى لأن يعيد بناء ما خربته السنوات العجاف التى استنزفت موارد هذا الوطن ووصلت بنا إلى ما نحن فيه.. نحن نقدر الظروف التى تعيشها مصر, والشعب المتعب يعانى كل يوم ارتفاع الأسعار وضيق ذات اليد وعواصف الحاجة, ولكن هذا الشعب حين يشاهد على شاشات فضائياته ومؤسساته الإعلامية هذه الملايين وهى تعصف بعقله وفكره وثوابته وتدمر أغلى ما ملك هذا الشعب وهو الإنسان هنا لا بد أن نسأل أين الدولة وأين مؤسساتها وأين المسئولون فيها.. حين يشاهد هذا الشعب خلال ثلاثين يوما أربعين مسلسلا تبلغ مساحتها 1200 ساعة هى عمليات تشويه وتدمير متعمد هنا يكون السؤال أين عقل المصريين فى منظومة البناء.. إن هذه الساعات تكلفت مليارى جنيه ولا أريد أن أقول كان أولى بها سكان الأحياء الفقيرة أو أصحاب العشوائيات.. ولا أقول كان أولى بها أسر الشهداء الذين وهبوا حياتهم للوطن.. ولا أقول كان أولى بها مستشفيات الأرياف حيث لا طبيب ولا علاج ولا رحمة ولكن كان من الممكن أن يكون هذا الرقم 200مليون جنيه تكفى لإنتاج عدد بسيط من الأعمال الفنية الجادة مثل مسلسل وحيد حامد الجماعة أو بهاء طاهر واحة الغروب ولكن حين يغيب الفكر تسقط الرؤى ويكون الارتجال.. لا أحد يرفض التسلية وهذا حق للناس ولكن كيف نقدم للناس ما يسلى ولا يجرح, كيف نقدم حوارا راقيا بلا إسفاف أو شتائم وبذاءات وكلام خارج لا يقال إلا فى غرف النوم وأين نحن من أبنائنا الصغار وهل يكفى أن نقول إن هذا العمل للأعمار فوق 18 أو 16 ومن الذى يمنع الأبناء أن يشاهدوا هذه الكوارث إذا كان الأب فى عمله والأم تعد لهم الإفطار, ولماذا نقع فى هذا الإسفاف من البداية إذا كنا قادرين على أن نكتب لغة راقية وننطق كلاما طيبا وهل من الضرورى أن ترتبط التسلية بالإسفاف أو الكلام الخارج؟!.. هل سأل احد المسئولين عن إنتاج هذه الأعمال عن القيمة الفكرية لما نقدم وهل يدرك هؤلاء أن مسئولية الفن أن يخاطب الفكر ويرتقى بالوجدان وأين الفكر فى دنيا العفاريت وتجارة الآثار وإخراجها من مقابرها بالجن, وهل فى الوقت الذى ندعو فيه إلى خطاب دينى معتدل ومتسامح يكون البديل أمامنا الجن والعفاريت.. وكيف نواجه هذه الكوابيس من هؤلاء الذين شوهوا الإسلام واخرجوا الناس من قبورهم وشوهوا كل ما قالوا وما كتبوا أم نواجه العفاريت التى تبعد الناس عن أمور حياتهم وتلقى بهم فى عالم من المغيبات لا يقل خطرا عن عالم المخدرات.. إذا كنا ندين برامج العفاريت ونسخر منها ونطالب بمنعها فهل نتركها تتسلل إلى حياتنا بهذه الضراوة فى مسلسلات يشاهدها الملايين فى أكثر من مسلسل تفرض نفسها على الشاشات.. ماذا يفعل العقل المصرى البسيط الآن وهو لا يقرأ ولا يكتب مع من يدعوه لأن يكره دينه ومن يلقى به إلى جحيم العفاريت ومن يدعوه إلى جلسة ممتعة مع المخدرات.. هل هذا هو العالم الذى سيبنى مصر الجديدة وكل ما يقدم يخرب كل شىء فيها.. كيف نشجع تجارة الآثار وهى التى دمرت تاريخنا الحضارى فى عودة النهب وغياب الضمائر.. إن الشئ المؤلم والمؤسف فى الوقت نفسه هو هذه المنافسة بين الفضائيات المصرية وكلها تعمل بأموال هذا الشعب ومؤسسات تتبع الدولة وكنا نظن إنها ستقدم إعلاما مختلفا ولكنها للأسف الشديد سقطت فى منافسة مع الإعلام الخاص بل أن المعركة على الإعلانات تجاوزت كل الحدود وكل التنازلات, لا أتصور إعلاما أنفقت عليه مؤسسات الدولة الملايين ثم يقع فريسة إغراءات الإعلانات لأن رسالته ودوره هو الأهم.. هناك معارك ضارية تدور طوال الشهر الكريم بسبب الإعلانات وكان الضحية الفن الراقى والفكر السليم.. لا أدرى ما هو الهدف من الإساءة فى الأعمال الفنية إلى شرائح محددة من المهن والأعمال فى الوقت الذى لا يستطيع فيه عمل فنى أن يقترب من قريب أو بعيد من فئات أخرى بل انه يجد أسوأ العقاب لو فكر فى ذلك.. إن المهن البسيطة مثل الممرضات تلقى عليهن كل السيئات ما بين انحراف الأخلاق وغياب الضمائر.. ونفس السياق نجد المضيفات حيث لاحول لهن ولا قوة عرضة للسخرية والإهانة وتجد من يدافع عن ذلك كله بأنه الفن, وهنا أسأل وأين الفن من المهن الأخرى التى لو اقترب أحد منها فأن مصيره معروف ما بين رونق الوظيفة وقدسية المنصب وما بقى من مسلسل الممنوعات.. حتى فى الفن هناك موانع وحصون وهناك أيضا حق مستباح.. لا أدرى أين حكومتنا الرشيدة إذا كانت كل الخدمات الصحية والخدمية ومياه الشرب والمبانى والبيوت تتم من خلال التبرعات.. إننا نشجع مثل هذه الأعمال الإنسانية وهناك قانون جديد صدر أخيرا للجمعيات الأهلية والأنشطة المدنية سوف يضع قواعد وأسسا لكل هذه الأعمال ولكن لماذا تصر هذه الجمعيات على تصدير هذا الكم من الكآبة للمواطنين فى هذا الشهر الكريم ونبدو أمام العالم وكأننا مجتمع من الشحاتين, إن كل من يريد أن يتبرع لهذه الأعمال الخيرية يكفيه أن يعرف المكان الذى يذهب إليه دون أن يشاهد كل ليلة هذه الجنازات وهذا الصراخ لأن هذه الإعلانات بمنتهى الأمانة تسىء لنا كشعب.. فى زمان مضى حين كان الفنان المصرى يذهب إلى عاصمة عربية ليعرض فيلما أو مسرحية كانت الجماهير تستقبله فى المطارات وكان يمشى فى الشوارع وحوله المعجبون وكثيرا ما حملته القلوب والرءوس حبا وإعجابا.. كيف ترى هذه الجماهير نجمها المحبوب وهو غارق فى الطين ويصرخ يطلب إنقاذه ثم يقف عاريا والكاميرات تحيط به من كل جانب هل تساوى هذه الصورة المخزية للفنان المصرى بضع دولارات.. إن هذا الفنان القدير المبدع صنعته مصر على عينيها شهرة وبريقا وتأثيرا ولا ينبغى أبدا أن نفرط فيه خاصة انه أصبح الآن عملة نادرة فى سنوات القحط والتراجع.. إن هذا الفنان الذى يهان فى حقول الطين أمام العالم كله لا يستحق هذا أبدا وإذا كان فى حاجة إلى المال فإن الوطن كفيل به وليكن هناك صندوق لدعم الفنانين إذا ساءت ظروفهم المعيشية واحتاجوا صورة من صور الدعم, أما أن نتركهم فى هذا المستنقع فهذا والله شىء لا يصح ولا يليق.. يجب أن نسأل أنفسنا هذا السؤال بمنتهى الصدق والأمانة كيف يرانا العالم من خلال ما نقدم من إعلام وفنون وحوارات وفكر وثقافة.. هل هذا هو عقل مصر وإبداعها الآن وهل هذا هو الفن المصرى العريق الذى قدم للسينما أجمل ما فيها وقدم للدراما التليفزيونية الكثير من الروائع, وهل هذه هى مصر التى قدمت مئات الرموز فى كل مناحى الحياة إننى أتصور حجم الأزمة فى أن نقدم 40 مسلسلا خلال 30 يوما من حيث الجهد فى الكتابة لأن إبداع 40 عملا دراميا يحتاج إلى مستوى فكرى وإبداعى على درجة كبيرة من التميز وأمام الرغبة فى ملء المساحات سقطت أعمال كثيرة فى دائرة السطحية والسذاجة وهذا عكس ما كان يحدث حين كانت المنافسة حول خمسة أو ستة أعمال بين نخبة من كبار الكتاب كان فى صدارتهم أسامة أنور عكاشة ووحيد حامد ومصطفى محرم ومحمود أبو زيد ومحمد جلال عبد القوى وكتيبة من كبار المخرجين, إن مقاومة الإفلاس لا تكون أبدا بالأعمال السطحية وملء ساعات الإرسال لا ينبغى أن يكون بأى شئ والجرى وراء الإعلانات لا يكون بهذه السهولة لأن ما يقدم الآن يهدد تاريخا طويلا من الفن الجاد.. مضى علينا الآن وقت طويل لم نشاهد فيه عملا فنيا دينيا يخاطب عقول الناس وقلوبهم مثل محمد رسول الله وعمر بن عبدالعزيز وفجر الإسلام وسقوط قرطبة وموسى بن نصير وطارق بن زياد, وفى تقديرى إننا أحوج ما نكون لمثل هذه الأعمال التى تحيى الدين الصحيح بسماحته ورحمته وما يدعو إليه من التواصل بين الناس.. خلت الشاشات المصرية تماما من المسلسلات الدينية فى السنوات الماضية ولم يبق غير بعض البرامج الدينية التى لا تضيف شيئا.. الخلاصة عندى أن بناء العقل لا يقل أهمية عن بناء المنشآت بل إن العقل هو البناء الحقيقى وما نشاهده الآن من جرعات سطحية لا يضيف شيئا ولا ينير طريقا فى العقل المصرى فى وقت نتحدث فيه عن قضايا كثيرة اخطر ما فيها أن نسعى لبناء عقل هذا الشعب بعيدا عن السذاجة والخزعبلات والعفاريت والعنف والتطرف والتخلف ولا أعتقد أن ما نقدم من المسلسلات فى هذا الشهر الكريم يسير فى هذا الاتجاه خاصة أننا فى حالة حرب مع قضية خطيرة أسمها الإرهاب.. إن القضية الآن ليس أن نمنع أو أن نحجب أو أن نراقب ولكن القضية أن يكون لدى مؤسسات الدولة من الاهتمام والوعى ما يجعلها قادرة على أن ترسم الطريق الصحيح لمن تاهت خطاه.. إن مصر الثقافة كانت دائما قادرة على أن تبهر العالم بكل ما تقدم من زاد فكرى وثقافى يقدر العقل ويؤمن بكل إبداع خلاق وفكر مستنير وعلى الدولة أن تلتفت إلى الثقافة لأنها الزاد الحقيقى لبناء مستقبل أفضل وحياة أكثر كرامة.. كلمة أخيرة.. ما نشاهده على شاشات الفضائيات المصرية الخاصة والحكومية لا يتناسب ابداً مع دولة تبنى مستقبلا جديدا يليق بها ولا مع شعب يسقط منه الشهداء كل يوم ولا مع أمة قدمت للعالم زادا ثقافيا وحضاريا مازالت تفخر به.. أفيقوا أيها السادة.. ليس هذا فن مصر. ..ويبقى الشعر لماذا أراكِ على كلِّ شىء بقايا.. بقايا ؟ إذا جاءنى الليلُ ألقاكِ طيفًا .. وينسابُ عطُركِ بين الحنايا ؟ لماذا أراكِ على كلِّ وجهٍ فأجرى إليكِ.. وتأبى خُطايا ؟ وكم كنتُ أهربُ كى لا أراكِ فألقاكِ نبضًا سرى فى دمايا فكيف النجومُ هوت فى الترابِ وكيف العبير غدا.. كالشظايا ؟ عيونك كانت لعمرى صلاة ً .. فكيف الصلاةُ غدت.. كالخطايا ؟ لماذا أراكِ وملءُ عُيونى دموعُ الوداعْ ؟ لماذا أراكِ وقد صرتِ شيئًا بعيدًا.. بعيدًا.. توارى.. وضاعْ ؟ تطوفين فى العمر مثل الشعاعْ أحسُّك نبضًا وألقاك دفئًا وأشعرُ بعدكِ.. أنى الضياعْ إذا ما بكيتُ أراكِ ابتسامهْ وإن ضاق دربى أراكِ السلامهْ وإن لاح فى الأفق ِ ليلٌ طويلٌ تضىء عيونُكِ.. خلف الغمامهْ لماذا أراكِ على كل شىءٍ كأنكِ فى الأرض ِ كلُّ البشرْ كأنك دربٌ بغير انتهاءٍ وأنى خُلِقْتُ لهذا السفرْ.. إذا كنتُ أهرب منكِ.. إليكِ فقولى بربكِ.. أين المفْر؟
قصيدة «بقايا سنة 1981» [email protected] لمزيد من مقالات يكتبها: فاروق جويدة