عندما كتبت الأسبوع الماضى عن ميراث «زيجينو بريجينسكى» مستشار الأمن القومى الأمريكى فى عهد كارتر- رحل يوم 27 مايو الماضى- ودوره فى وضع أساس التنظيمات الجهادية المسلحة على أرض أفغانستان أواخر السبعينيات لم أتوقع أن يكون التاريخ القريب ليس معلوما إلى هذا الحد, وأن التفاصيل التى تراكمت حتى وصلنا إلى مرحلة دخول الميليشيات قلب عواصم عربية نسينا أن مردها يعود إلى عملية أطلق عليها «عملية الإعصار» Operation Cyclon. فحسب ما قاله المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية، روبرت جيتس، فى مذكراته «من الظلال» فإن أجهزة الاستخبارات الأمريكية بدأت فى مساعدة المجاهدين فى أفغانستان قبل ستة أشهر من التدخل السوفيتي. فى تلك الفترة، كان بريجينسكى هو مستشار الأمن القومى وكان له دور فى التخطيط. وقد رد الأخير فى مقابلة نادرة عن دوره قائلا «وفقا للرواية الرسمية للتاريخ، بدأت وكالة المخابرات المركزية مساعدة المجاهدين فى عام 1980، أى بعد أن غزا الجيش السوفيتى أفغانستان فى 24 ديسمبر 1979. ولكن الواقع، والأمر سرا حتى الآن، هو خلاف ذلك تماما: فى الواقع، أنه فى يوم 3 يوليو من العام نفسه، وقع الرئيس كارتر أول توجيه للمساعدة السرية لخصوم النظام الموالى للسوفيت فى كابول. وفى ذلك اليوم نفسه، كتبت مذكرة للرئيس أوضحت له رأيى أن هذه المساعدة ستحفز السوفيت على التدخل العسكري». وأوضح بريجينسكى أن الهدف من تلك العملية وصناعة كتائب المجاهدين لم يكن الضغط على الروس للتدخل ولكن زيادة احتمالية أن يفعلوا ذلك. فى المقابلة باغت الصحفى مستشار الأمن القومى الأسبق بسؤال منطقى يقول: الروس برروا تدخلهم العسكرى بأنهم يريدون محاربة «التدخل السرى الأمريكي» فى أفغانستان، وهو ما يعنى أن هناك أساسا للحقيقة. أنت لست نادماً على أى شيء اليوم؟! كان رد بريجينسكى مثلما فعل معى عندما حاولت سؤاله عن دوره فى صناعة جماعات الإسلام السياسى المسلحة انفعل قليلا ثم قال «نأسف على ماذا؟ كانت تلك العملية السرية فكرة ممتازة. كان لها تأثير فى وقوع الروس فى الفخ الأفغانى وأنت تريد منى أن نأسف لذلك؟ فى اليوم الذى عبر فيه السوفيت رسميا الحدود، كتبت إلى الرئيس كارتر: لدينا الآن الفرصة لمنح الاتحاد السوفيتى فيتنام الخاصة بهم. فى الواقع، منذ ما يقرب من 10 سنوات، لم يكن فى مقدور موسكو أن تشن حربا يمكن أن تدعمها حكومتها، وهو الصراع الذى أدى إلى الإحباط، وأخيرا تفكك الإمبراطورية السوفيتية». اعتراف واضح بمنح الجماعات المسلحة الأسلحة والتدريب والمشورة وهى الخبرات التى انتقلت للجماعات الإرهابية فى سائر المنطقة العربية بعدها بسنوات قليلة. لم يكن يشغل الأمريكيون تأثير «عملية الإعصار» على المستقبل وقال بريجينسكى بعد سنوات من تفكك المعسكر الشرقى: «ما هو الأكثر أهمية لتاريخ العالم؟ طالبان أم انهيار الإمبراطورية السوفيتية؟ بعض المسلمين تمت إثارتهم أم تحرير أوروبا الوسطى ونهاية الحرب الباردة؟». يعتبر العقل المدبر للجهاد الأفغانى أن «إثارة حفيظة بعض المسلمين للدفاع عن دينهم» مسألة عادية، فى المقابل جنت الولاياتالمتحدة مكاسب كبرى أهمها سقوط القوى العظمى المنافسة لها على المسرح الدولي. لا يعترف بريجينسكى بدور واشنطن فى صناعة الجهاد المسلح حيث بنى نظريته مسبقا على نظرية مفادها أن الأرض التى تمتد من مضيق جبل طارق، إلى جميع أنحاء أوروبا، ومعظم بلدان الشرق الأوسط إلى أوراسيا وروسيا والصين والهند، هى ببساطة «الكتلة الأرضية» الأكبر فى العالم، تحتوى على معظم سكان العالم ومعظم الموارد الطبيعية فى العالم (بما فى ذلك النفط والغاز الطبيعي). ومن ثم فالسيطرة على «كتلة الأرض» المشار إليها يعتبر المفتاح للهيمنة على العالم. كما أن الكتلة السكانية التى تحتل منتصف تلك المنطقة الجغرافية هى من المسلمين إلى حد كبير. وقد استقر فى عقل المخططين الاستراتيجيين فى الغرب لمدة أكثر من قرن كامل- حسب مراجع عديدة- أن السيطرة على موارد ما يسمى ب «جزيرة الأرض» Earth Island يكون بالاستفادة من العلاقة الوطيدة مع الأغلبية المسلمة فى تلك المنطقة. فى تقرير أعدته المخابرات المركزية الأمريكية فى ديسمبر 1986، رفعت عنه السرية العام الماضي، بعنوان «الأصولية الإسلامية فى الشرق الأوسط وجنوب آسيا: النظر إلى المستقبل» يظهر المنهج الخاطيء لوكالة المخابرات المركزية فى التعامل مع المتطرفين سعيا وراء جدول أعمالها ضد الاتحاد السوفيتى السابق وأفغانستان ودول أخري. يشير التقرير إلى أن الإخوان المسلمين «معتدلون» و«عمليون» وهو التوصيف «المكافأة» على دور إخوان مصر فى عملية تجنيد وإرسال عناصر «المجاهدين» إلى أفغانستان- قبل كتابة التقرير ب 6 سنوات فقط. كما وضع التقرير توصيفا مراوغا هو «الأصولية الإسلامية المعتدلة» من أجل تسويق وكالة الاستخبارات لحزمة مساعداتها للمجاهدين الأفغان سواء لإدارة رونالد ريجان أو الكونجرس أو الجمهور الأمريكي. واعتبرت وكالة الاستخبارات المركزية أن المصطلحين «المعتدلين» و «الأصوليين» فى السياق الإسلامى هو من قبيل «السفسطة» أو «الكلام المتناقض». كل ما نحن فيه اليوم مرده إلى تلك الحقبة الثرية بالتفاصيل.. والتى مازلت على اقتناع بضرورة وجود شهادات مصرية وعربية بشأنها. [email protected] لمزيد من مقالات عزت ابراهيم;