نعود قليلًا للوراء خلال شهر ديسمبر من عام 1979، حينما اجتاح الاتحاد السوفيتى الحدود الأفغانية. روّج الأمريكان آنذاك لفكرة باتت من المسلمات اليوم، وهى أن الاستخبارات الأمريكية قد استخدمت القاعدة فى مقاومة الغزو السوفيتى لبلد مسلم. أى أن فكرة استخدام التكفيريين جاءت بعد الغزو السوفيتى للأراضى الأفغانية وهذا اعتقاد خاطئ ذلك أن روبرت جيتس المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية فى مذكراته «من الظلال»، قد أشار إلى أن أجهزة الاستخبارات الأمريكية بدأت فى مساعدة المجاهدين فى أفغانستان قبل 6 أشهر من التدخل العسكرى السوفيتى وبالتأكيد لا بد أن نبحث هنا عن مستشار الأمن القومى للرئيس كارتر آنذاك، الداهية زبيجيو بريجنسكى الذى أكد صحة رواية روبرت جيتس. يقول بريجنسكى: نعم، ووفقا للرواية الرسمية من التاريخ بدأت مساعدات وكالة الاستخبارات المركزية إلى المجاهدين خلال عام 1980 وهذا لكى نقول إنه كان بعد غزو الجيش السوفيتى لأفغانستان فى 24 ديسمبر 1979، ولكن الواقع الذى لا يزال سرا محفوظا حتى الآن هو على خلاف ذلك تماما. فى الواقع كان يوم 3 يوليو من عام 1979 هو اليوم الذى وقع فيه الرئيس كارتر التوجيه الأول على مساعدات سرية لمعارضى النظام الموالى للاتحاد السوفيتى فى كابول وفى ذلك اليوم نفسه كتبت مذكرة إلى الرئيس، شرحت له فيها أن هذه المساعدات ستكون سببًا للحث على التدخل العسكرى السوفيتي. ويستطرد بريجنسكى: كانت تلك العملية السرية فكرة ممتازة كان من أثرها استدراج الروس إلى الفخ الأفغانى. واليوم الذى عبر فيه السوفيت الحدود رسميا كتبت للرئيس كارتر قائلًا: لدينا الآن الفرصة لإعطاء الاتحاد السوفيتى حرب فيتنام الخاصة به، إذن علمنا الآن قدرة الغرب على استخدام هذه الجيوش التكفيرية وأنها لا تأتى بعد صناعة الحدث كما يخدعوننا دائما، بل يتم استخدامهم فى صناعة الحدث أولًا ومن ثمة يروج على أنهم مناهضون لهذه الأحداث. وبالطبع النتائج المستقبلية هنا لا تهم الغرب كثيرًا، فهؤلاء أصدقاؤهم وصناعتهم ويعلمون كيف ومتى يستخدمونهم ومتى تتم تصفيتهم وهو ما تقرأه ضمنيا فى إجابة لبريجنسكى عن السؤال المطروح عليه: ألست نادمًا بعد، أن دعمك لهذا الكيان التكاملى الإسلامى، قد أعطيت الأسلحة والنصيحة لمن أصبحوا إرهابيين مستقبلا؟ كانت الإجابة على لسان بريجنسكي: ما الأهم فى تاريخ العالم؟ طالبان أم انهيار الإمبراطورية السوفيتية؟ بعض المسلمين المستثارين، أم تحرير وسط أوربا ونهاية الحرب الباردة؟ هكذا أفصح بريجنسكى عن أفكاره فى يناير 1998 وكأنما يشير إلى المنهجية الأنجلوأمريكية المتبعة مع هذه التنظيمات اليوم «صناعة تنظيم داعش»، لكن تبقى علامات التعجب حول صلب هيكل هذا التنظيم الذى تقتظ صفوفه بالأجانب )30 ألفًا(، فهو تنظيم أجنبى فى المقام الأول، يحتاج إلى جنود جدد من الشباب أصحاب فكرة التكنولوجيا الحديثة وأصحاب لغات متعددة وهو ما يتوفر فى الشباب الأوربى بصفة خاصة، ولكن كيف يتمكن التنظيم من جذب هؤلاء الشباب المرابطين خلف البحار والمحيطات؟ جميع مساجد أمريكا وأوربا تسيطر عليها المنظمات الإسلامية التى تمثل واجهة للتنظيم الدولى للإخوان المسلمين. كافة مكتبات هذه المساجد تحتوى على كتب إسلامية فى الفقة والتفسير والشريعة جميعها تعود مرجعيتها إلى سيد قطب المرشد الإرهابى لجماعة الإخوان المسلمين، إذ لا وجود لكتب الأزهر الشريف. هذه المساجد فى باريس ومدريد وبرلين وبروكسل وغيرها من عواصم أوربية تعد المفرخة الدوارة لإرسال الجهاديين إلى العراقوسوريا للانضمام إلى داعش تحت رعاية استخبارية ومباركة من الحكومات الأوربية منذ العام 2013. بعد العمليات الإرهابية التى استهدفت العاصمة باريس فى 13 نوفمبر 2015، قررت السلطات الفرنسية غلق كل المساجد التى تبث روح الكراهية والتطرف لمريديها، وزعمت السلطات أن هذه المساجد كانت تحت المراقبة ولديهم كشوفات بأسماء دعاة وشيوخ وأئمة هذه المساجد التى تحرض على التطرف منذ زمن طويل وتعمل على تجنيد الشباب للسفر إلى سوريا. ما كشفت عنه السلطات الفرنسية يثبت بالدليل القاطع تورط فرنسا مثل سائر جيرانها بشكل أو بآخر فى منظومة تجنيد مواطنيهم وعبورهم الحدود للانضمام إلى صفوف داعش فى سورياوالعراق، فكل شيء كان يتم تحت أعينهم، وإشرافهم غير المباشر. بعد الحادث الإرهابى الأخير فى مدينة نيس الفرنسية والذى أدى إلى مقتل لا يقل عن 84 مواطنًا فرنسيًا باتت إستراتيجية صناعة تنظيم داعش وجلب الأجانب للقتال داخل صفوفه تنذر بنتائج وخيمة على أوربا بالكامل وربما تنذر بتفكيك منطقة اليورو والتى بدأت فى رفع حالة التأهب والاستعداد فى مواجهة العائدين من سورياوالعراق. فرواية بريجنسكى التى ذكرها عام 1998، التى تزعم أن الخلاص من السوفيت أهم كثيرًا من القضاء على حركة طالبان، لن تصبح هى الرواية الرسمية فى شوارع أوربا الآن. فهذه المرة استمدت لعبة الحروب الدينية وقودها من مواطنيهم فى الغرب. فرنسا- ساركوزى، كانت الدولة الفاعلة فى ليبيا عام 2011 وقواتها كانت لها اليد العليا فى الحرب ضد القذافى ومخابراتها من نفذت عملية اغتياله وحكومتها من سرقت مليارات ليبيا من بنوكها. ساركوزى جعل من الجنوب الليبى مفرخة دوارة للارهابيين وسمح بتهريب السلاح من مخازن الجيش الليبى إلى تنظيم القاعدة فرع المغرب العربى بقيادة مختار بلمختار، ومن ثمة خلق الذريعة للدخول العسكرى فى مالى 2014 ثم افريقيا الوسطى 2015 بعملية البركان التى اتاحت له اليوم نشر قواعده العسكرية على طول الشريط الواصل من موريتانيا غربا على الأطلسى وحتى إقليم دارفور بالسودان شرقًا. النظرية تقول ان الشعوب تسدد فواتير حكوماتها الامبريالية كاتب جيوسياسى