بعيدا عن ردود الفعل الدولية الغاضبة على قرار الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بالانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ، يحتاج سكان هذا الكوكب للتعرف تفصيلا على الأسباب الحقيقية التى دفعت ترامب لاتخاذ هذا القرار "المتوقع"، وتداعيات هذا القرار على مستقبل اتفاق باريس، وعلى مستقبل الحياة على سطح الأرض، وعلى الجهود العالمية لمحاربة التغير المناخي، وأيضا على حياة الناس اليومية، وبالأخص أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية. أما عن أسباب ودوافع الانسحاب الذى أحدث صدمة لدى الدول ال194 الموقعة على هذا الاتفاق التاريخى الذى ينص على احتواء ارتفاع حرارة الأرض أقل من درجتين مئويتين بالمقارنة مع فترة ما قبل الحقبة الصناعية، فهى ليست سرا خافيا على أحد، فقد كانت النية مبيتة ل"تمزيق" هذا الاتفاق واعتباره "غير ملزم" منذ حملة ترامب الرئاسية قبل نوفمبر الماضي، علما بأن سلفه باراك أوباما كان أبرز "مهندسي" هذا الاتفاق، وعلى الرغم من حقيقة أن الولاياتالمتحدة هى ثانى أكبر مصدر لانبعاثات الكربون الضارة بالبيئة فى العالم بعد الصين. وسبق لترامب أن عرض وجهة نظره تجاه الاتفاقية المبرمة عام 2015 فى أكثر من مناسبة، وله مقولات نارية فى هذا الصدد، منها أنه "منتخب لتمثيل أمريكا وليس باريس"، ومنها أن الاتفاق "غير عادل إطلاقا" لبلاده، ومنها تبرير قراره بالدفاع عن الوظائف الأمريكية، وبحماية المصانع الأمريكية، ومنع الاتفاق من أن يشكل "عقبة" فى طريق نهوض الصناعات الأمريكية، وأيضا برغبته الجامحة فى تخلى بلاده عن دور "شرطي" العالم فى شتى المجالات، وذلك فى إطار شعاره الرئاسى الأشمل "أمريكا أولا". هذا عن الأسباب، أما عن النتائج والتداعيات فهى كالتالى : - أولا، النتائج كارثية على مستقبل اتفاق باريس وجهود حماية الأرض بشكل عام، فعلى الرغم من أن قادة دول العالم أصدروا خلال الساعات الماضية تصريحات "عنترية" عن ضرورة استمرار جهود محاربة التغير المناخي، فإن الحقيقة المؤسفة تشير إلى أن هذه الجهود تلقت ضربة فى مقتل، إذ ستكون هناك مشكلة مؤلمة تتعلق بتمويل هذه الجهود، سواء لاتفاقية باريس التى تتحمل واشنطن 23% من ميزانيتها، أو للمساعدات الدولية المقدمة للدول الفقيرة لمواجهة الظاهرة، مثل الخبرات التكنولوجية، ونموذج "صندوق المناخ الأخضر"، بل يمكن القول إن القرار الأمريكى "شهادة وفاة" للاتفاق، نظرا لأنه سيكون من الصعب على باقى الدول الموقعة عليه الوفاء بأهدافه بمفردها. - ثانيا، اقتصاديا، أكبر المتضررين من القرار "الترامبي" هى المؤسسات الاقتصادية الكبرى، وبخاصة العاملة فى مجال التكنولوجيا الحديثة، والطاقة النظيفة والمتجددة، وشركات إنتاج السيارات الكهربائية، بعد أن كانت اتفاقية باريس تعنى بداية عهد جديد لهم جميعا، بينما المستفيد الأكبر أصحاب ورؤساء شركات ومناجم الفحم، وذلك بعد أن كانوا يستعدون لزوال عروشهم بسبب "باريس"، إذ أن قرار ترامب يعنى من بين ما يعنيه "عودة الفحم" كمصدر رخيص للطاقة، حتى وإن كان مدمرا للحياة البيئية، وستكون هذه "العودة" على حساب صناعات الطاقة النظيفة بطبيعة الحال، بما فيها الغاز الطبيعي، الذى انخفض سعره أمريكيا بشكل ملحوظ فى الفترة الماضية. - ثالثا : أمريكيا، بدأت موجة مقاومة سياسية ومجتمعية عنيفة لقرار ترامب من جانب القوى المؤيدة للاتفاق، ويقود هذه الموجة سياسيا الحزب الديمقراطي، وعلى رأسه الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما، كما باشرت عشرات المدن والولاياتالأمريكية الممتدة من نيويورك إلى كاليفورنيا ابتداء من يوم أمس فى تنظيم "حركة مقاومة شعبية" لهذا القرار للعمل على إلغائه على غرار ما تم فى قرار حظر السفر المثير للجدل، وفى حالة نجاح هذه الجهود، سيتحول ترامب إلى رئيس "الوعود المنكوثة"، بعد تعرضه لنكسات سابقة فى قرارات حظر السفر وإلغاء "أوباما كير"، وأخيرا تراجعه عن قرار نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب للقدس المحتلة، وهو التراجع الذى أغضب اللوبى اليهودى الأمريكى بطبيعة الحال. - رابعا : أوروبيا، حصلت القارة البيضاء على فرصة ذهبية لحمل لواء قيادة العالم بدلا من أمريكا، على الأقل فى هذه القضية، وظهر ذلك بوضوح من خلال تصريحات القادة الأوروبيين خلال الساعات الماضية التى تعهدوا فيها بأن تأخذ أوروبا على عاتقها عبء الدفاع عن مستقبل كوكب الأرض، ولنلاحظ معا تصريح الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون الذى دعا فيه علماء البيئة الأمريكيين للانتقال إلى فرنسا لمواصلة أبحاثهم فى مجال التغير المناخي، كما صدرت تصريحات مشابهة من مسئولين أوروبيين تسير فى الإطار نفسه، شعارها أن قيادة حرب المناخ الآن فى يد أوروبا. - خامسا : دوليا، حصلت الصين أيضا على فرصة ذهبية للقيام بدور رائد على الساحة الدولية، والظهور بمظهر "الزعيم العالمى الجديد" الذى يخشى على مستقبل هذا الكوكب أكثر من أى طرف آخر، بحكم أنها من أكثر الدول المتحمسة لاتفاقية باريس ولتطبيق بنوده، رغم أنها أكبر دول العالم تسببا فى الانبعاثات الكربونية، وهو ما سيمكن الصين من اكتساب أرضية واسعة بالذات لدى الدول النامية أو الفقيرة ودول الجزر الصغيرة المهددة التى تحتاج إلى من يساعدها فى مجال تمويل جهود محاربة ارتفاع حرارة الأرض، ولا ننسى أن اتفاق باريس أصلا لم يكن ليتحقق لولا هذا التوافق "التاريخي" وقتها بين الصينوأمريكا. - سادسا : معنويا، سيتحمل ترامب المسئولية التاريخية عن أى كوارث بيئية ستحدث فى العالم مستقبلا بسبب ارتفاع درجة حرارة الأرض، وفى هذا النقطة يقول مايكل برون الخبير فى شئون البيئة لهيئة الإذاعة البريطانية "بي.بي.سي." إن الانسحاب الأمريكى "خطأ تاريخي"، وسيسجل فى كتب التاريخ باسم ترامب، وأضاف : "سيبدى أبناء الأجيال المقبلة باستمرار استياءهم من هذا الشخص الذى تسبب فى معاناتهم بقرار انفصل عن الواقع والأخلاق"، بحسب تعبيره. .. فهل تثمر المعارضة فى الداخل الأمريكى وضغوط الشركات الكبرى أى جهود فى الفترة المقبلة لإثناء ترامب عن قراره؟ وفى حالة فشل هذه الجهود، هل تنجح أوروبا والصين فى قيادة دفة السفينة، سفينة حرب "التغير المناخي"؟ وكيف؟ وبأى تكلفة؟