رحلة طويلة قطعها الدبلوماسى الأثيوبى د.تيدروس أدهانوم جبريسوس (52 عاما) متنقلًا بين السياسة والصحة العامة، من عضو المكتب السياسي بأكبر أحزاب الائتلاف الحاكم، إلى وزير للصحة وباحث في مكافحة الملاريا وحاصل على الدكتوراه فى الصحة العامة من بريطانيا ورئيس الصندوق الدولي لمكافحة الملاريا والإيدز والدرن، ثم وزيرًا للخارجية، وأخيرًا فوزه بمنصب المدير العام لمنظمة الصحة العالمية مساء الثلاثاء الماضى، ليصبح أول إفريقى يأتى على رأس المنظمة منذ دخول دستورها حيز النفاذ فى السابع من أبريل 1948، وهو التاريخ الذى تم اتخاذه يومًا عالميًا للصحة، والتى تضم ما يزيد على سبعة آلاف موظف في نحو 150 مكتباً قطرياً، و6 مكاتب إقليمية، إلى جانب موظفى المقر الرئيسى في «جنيف» السويسرية. الدبلوماسية الإثيوبية منذ تقدمت حكومة أديس أبابا باسم «تيدروس»، الذى ينتمى لقومية «التيجراي»، مرشحًا لمنصب المدير العام فى أبريل الماضي، وبعد اختياره ضمن القائمة الأولية التى ضمت 5 مرشحين من بين ستة متقدمين من فرنسا وإيطاليا والمجر وبريطانيا وباكستان وأثيوبيا، سخرت الدبلوماسية الإثيوبية جهودها إقليميًا وعالميًا لدعم مرشحها وإلقاء الضوء على مجهوداته كوزير للصحة (2005-2012)، ثم كوزير للخارجية (2012 – 2016)، وهو ما ممكنه بفضل علاقاته الدولية من التفوق على منافسه المرشح البريطاني «ديفيد نابارو»، كبير مستشاري الأممالمتحدة في قضايا الصحة والبيئة، في جولة الإعادة الثالثة والأخيرة بحصوله على 133 صوتا في مقابل 50 صوتا فقط للأخير. حدث ذلك فى المرة الأولى فى تاريخ المنظمة التى يتم فيها التصويت بمشاركة أعضاء الجمعية البالغ عددهم 194 دولة بدلا من المجلس التنفيذي فقط، علمًا بأنه تم استبعاد خمس دول بسبب عدم تسديد التزاماتها وهى: أوكرانيا والصومال وغينيا كوناكري وجزر القمر وأفريقيا الوسطى. من جهة أخرى، وفي إطار حرص إثيوبيا على تقديم نفسها باعتبارها قوة ناهضة في القارة الأفريقية، أظهرت كامل التعاون مع هيئات الأممالمتحدة حيث استقبلت قبل أسابيع المفوض السامى «زيد بن رعد الحسين» لمراقبة ملف حقوق الإنسان فى البلاد، وعلى وجه الخصوص بعد نجاحها فى يناير الماضي فى الفوز بمقعد عضو غير دائم فى مجلس الأمن لتحتل المقعد المخصص لشرق أفريقيا، حيث يضم مجلس الأمن خمسة عشر عضوًا بينهم الخمسة الدائمون: أمريكا وروسيا والصين وبريطانياوفرنسا، إلى جانب العشرة غير الدائمين، وهم: مصر واليابان وأوكرانيا وأروجواي والسنغال وإثيوبيا وبوليفيا وإيطاليا وكازاخستان والسويد، حيث يتم استبدال خمسة من الأعضاء غير الدائمين عبر انتخابات تجريها الجمعية العامة لمنظمة الأممالمتحدة كل عامين. دعم إفريقيا السمراء فى الوقت الذي اعتمد فيه البريطانى «نابارو» على خبرته كخبير إداري (تكنوقراط) بأروقة الأممالمتحدة، لم يستطع حشد الأصوات لصالحه فضلًا عن كبر سنه. وفى الوقت الذى لجأت فيه الباكستانية د.سانيا نشتار للدول الإسلامية والعربية، من بينها قطر على وجه الخصوص، وعلى الرغم من سجلها الحافل إلا أنها لم تكن نافذة دبلوماسيًا، كما قلل من نسب فوزها كونها امرأة تنتمي لدولة آسيوية، وهو ما يجعل من الصعوبة بمكان فوزها بعد بقاء الكندية من أصل صينى «مارجريت تشان» لدورتين متتاليتين منذ يناير 2007، والتى لم تخف فرحتها بفوز «تيدروس» عندما صافحته بقوة وضربت كفه المصافح لها بعد الانتهاء من كلمته عقب إعلان فوزه. من جهة أخرى، نجحت الدبلوماسية الأثيوبية فى حشد وتوحيد القارة الإفريقية خلف مرشحها، وطبقًا لما أعلنه السفير «جان ماري إهوزو» (بنين) الممثل الدائم للاتحاد الإفريقي لدى الأممالمتحدة، فى المؤتمر الصحفى الذى عقده الاتحاد قبل أقل من أسبوع من التصويت، فإن الكتلة التصويتية الإفريقية البالغ عدد أعضائها 54 دولة، تقف بالكامل خلف «تيدروس»، فضلا عن دعم دول الكاريبي وأمريكا اللاتينية، وهو ما أكده الحضور من السفراء الممثلين الدائمين لدى الأممالمتحدة من أنجولا، وغينيا، وموزمبيق، ورواندا، والسودان، وتشاد، وإثيوبيا، ومالي، ممن اعتبروا «تيدروس» المرشح الأصلح لمواجهة تحديات الألفية الثالثة الصحية على مستوى العالم. وعود وتحديات فى كلمته قبيل البدء فى عملية التصويت، قدم «تيدروس» عدة وعود تتلخص في العمل بلا كلل، والاستجابة السريعة، وتعزيز الجبهة الداخلية للمنظمة، وتحويلها إلى قوة عالمية، ودعم أسس الكفاءة والحياد والشفافية. وأكد «تيدروس» فى حديثه الودي مع الصحفيين صبيحة فوزه إلى أهمية التحرك السريع والفعال فى الأزمات، والوقوف إلى جانب الدول النامية، ومراعاة الأولويات العلمية وسياسات الدول الأعضاء والجهات المانحة الأخرى، فضلًا عن التوازن بين تكاليف سفر العاملين بها وميزانيات برامجها، التى تعرضت المنظمة بشأنها لانتقادات عدة. بعيدًا عن أضواء المنصب، ينتظر «تيدروس» تحديات عدة تتعلق باستعادة المنظمة لمكانتها، وعلى وجه الخصوص بعد الاستجابة البطيئة فى أثناء أزمة «الإيبولا» عام 2013 والتى أدت لوفاة 11 ألف شخص، فضلًا عن مشاكل ضعف التنسيق، والميزانيات المختلطة، وندرة الموارد، والتعارض بين سياسات الدول الأعضاء والصالح العام، إذ يتعين على المدير العام الجديد تحسين قدرات المنظمة والعمل فى إطار من الشفافية والتنسيق والتوازن وتوفير التمويل، وهذا ما ستكشفه 5 أعوام من العمل هى مدة ولاية المدير العام الجديد.