يدور الزمان ويدور، والأقباط يواجهون اضطهادا دورا بعد دور، ولكن هذه الحلقة من حلقات الاضطهاد هى الأعنف فى تاريخنا حتى إن الأقباط جعلوا بداية حكم دقلديانوس بداية لتقويم جديد اعتبرته الكنيسة مجدها وفخرها وهو تقويم الشهداء الذى يبدأ عام 284م وهو التقويم القبطى الفرعوني. وجلس دقلديانوس على العرش بعد أن اغتصب العرش من عائلة الإمبراطور نوماريوس الذى حكم فترة واجهت فيها روما حروبا كثيرة فى الشرق من فارس، وفى الغرب من قبائل أرادت الاستقلال. وكانت الفترة التى تسبق هذا التاريخ هى فترة انتشار للمسيحية فى العالم حتى إن أغلب الجيش الرومانى قد صاروا مسيحيين، بل إن القصر الإمبراطورى نفسه كانت تغلب عليه صفة المسيحية فتوجد رسائل بين لوسيان الناظر على القصر الإمبراطورى وبين البابا ثيؤناس البابا السادس عشر يحدثه فيها عن السلوك المسيحى وتقديم المحبة لكل الناس. وكان الإمبراطور نوماريوس قد أرسل ابنه يسطس والأمير تادرس المشرقى وأوسابيوس ابن أكبر الوزراء واسيليدس على رأس الجيش لمحاربة فارس، وذهب هو على رأس جيش أخر لمحاربة القبائل فى أوروبا، وقُتل هناك. وخلا القصر من عائلة الإمبراطور إلا أن إحدى بنات الإمبراطور قد أغواها رئيس الحرس فى القصر وهو دقلديانوس الذى كان من عائلة فقيرة جداً وبدأ حياته عاملا فى اسطبلات الخيل بالقصر ولم يتلق أى تعليم أو ثقافة ولكنه استطاع أن يتدرج فى القصر حتى صار من الحرس الخاص. وتزوج ابنة الامبراطور وأعلن نفسه إمبراطورا وحتى يتم الاعتراف به فى أرجاء الإمبراطورية عين مكسميانوس إمبراطوراً على الولاياتالغربية واختص هو بالولاياتالشرقية، وعين مساعدا له على رتبة قيصر وهو جاليريوس، وعين قسطنطينوس والد الإمبراطور قسطنطين فيما بعد قيصرا على الغرب لحكم فرنسا وإسبانيا وبريطانيا. وكان دقلديانوس يعتبر نفسه إلها وسيدا للعالم وأنه هو الكاهن الأعظم للإله جوبيتر. وكان يلبس عصابة على رأسه وحذاء فى قدمه مرصعين بالجواهر، ولم يكن يسمح لأحد بمقابلته إلا راكعا ويخضع برأسه ويقبل طرف ثيابه قبل أن يكلمه. وقد وجد أن الجيش والقصر والإمبراطورية قد انتشرت فيهم المسيحية، وقد كان هذا عائقاُ عن تبجيله كإله، كما أن كهنة الأوثان أقنعوه بأن الآلهة لن تكلمه أو تباركه لوجود المسيحيين بالقصر. فبدأ بطرد المسيحيين تنفيذا لرغبة كهنة الأوثان. ثم عاد ابن الإمبراطور السابق والأمراء من الحرب مع فارس منتصرين فاستقبلهم وعرض عليهم مناصب فى الإمبراطورية، وقد كانوا مسيحيين أيضا وكان شرطه الوحيد هو التخلى عن المسيحية وعبادة الأوثان فلما رفضوا أرسلهم جميعاً إلى مصر وأوصى الوالى بتعذيبهم وقتلهم وقد كان. وفى عام 288م قام المصريون بثورة للاستقلال عن روما بدأت فى الصعيد وعينوا أخيلوس إمبراطورا على مصر. وأرسل دقلديانوس جيشا لإخماد ثورة المصريين فانهزم الجيش الرومانى بعد أن دمر كثيرا من مدن الصعيد لأن مركز الثورة كان فى طيبة. فجاء دقلديانوس بنفسه على رأس جيش كبير وقد انتقلت الثورة إلى الإسكندرية فحاصرها لمدة ثمانية أشهر. وقد أقنعه جاليريوس مساعده بأن مسيحيى مصر هم الذين ناصروا الثورة فدمر الإسكندرية وأخذ يقتل الأقباط فى الشوارع ويهدم فى الكنائس، وقد أعلن أنه لن يخرج من مصر إلا إذا وصل الدم إلى ركبة حصانه. وبالطبع كان الدم يجرى فى الشوارع والحوارى لذلك بالرغم من استشهاد مئات الآلاف لم يصل الدم إلى ركبة الحصان، ولكن أراد الرب أن يوقف هذا الجنون فتعثر حصانه وهو فوقه فى شوارع الإسكندرية فنزل الحصان بركبتيه على الأرض فوصل الدم إلى الركب ومن الطريف أن صارت هذه المقولة من تراثنا المصري. ولأن دقلديانوس كان جاهلاً فقد أقنعه الوثنيون بأن الأقباط لديهم فى مكتبة الإسكندرية كتب فى علم الكيمياء تستطيع أن تحول التراب إلى ذهب وهذا سر صمودهم أمامه، فأمر بجمع كل كتب العلوم من المكتبة وحرقها. ورجع دقلديانوس وأصدر مرسوماً عام 303م يقضى بهدم الكنائس وحرق الكتب المقدسة وإكراه المسيحيين على السجود للأوثان وعلق هذا المنشور فى كل الولاياتالرومانية. وتقدم فارس مسيحى اسمه جرجس ومزق هذا المنشور وقبض عليه وتم تعذيبه سبعة أعوام متواصلة انتهت باستشهاده وهو الشهيد العظيم المشهور مارجرجس. وفى مصر كان الاضطهاد عنيفاً حتى إنه قُتل مليون قبطى مسيحى فى هذه السنين. وفى عام 305م أصيب دقلديانوس بالجنون وكان يتخيل أن الشهداء قد قاموا ويطالبونه بالقصاص من دمائهم، وفى إحدى نوبات جنونه سقط من على العرش فأصيب بالعمى وهام على وجهه وهرب فى غابات آسيا الصغرى (تركيا) والعجيب أن من استضافه وكان يطعمه هم المسيحيون. وقد جلس على العرش بعده جاليريوس وكان أعنف منه فى اضطهاد المسيحيين خاصة الأقباط فقد كانت جثث الشهداء تتكدس فى الشوارع وتلقى فى البحر لأنهم لم يجدوا أماكن لدفنهم. وقد استشهد أعاظم الدولة مثل الشهيد مينا الذى كان ابن والى وتوفى والده فلما حدث الاضطهاد ترك كل أمواله ومركزه وذهب للصحراء ليتعبد، ولكنه شعر بأنه لا يستطيع الهروب من ساحات الاستشهاد فذهب وقدم نفسه للوالى واستشهد. وقد شيدت له فى مريوط مدينة شهيرة فى القرن الخامس كان مسيحيو العالم كله يأتون إليه ليتباركوا منه لكثرة المعجزات التى كانت تحدث حتى إنه سمى بمارمينا العجايبي. وقد تبارى الولاة الرومان فى مصر على قتل المسيحيين وكانت ساحات الاستشهاد فى كل مدن مصر. ولكن كان أكثرهم شراسة والى أنصنا ملوى الذى ذبح خمسة آلاف شهيد فى مدينة أنصنا وثمانية آلاف فى مدينة إسنا رفضوا جميعهم السجود للأوثان. والعجيب أن هذا الوالى قد أصيب فى عينه وهو يعذب أحد الشهداء فكان يصرخ من الألم فأشاروا عليه أن يأخذ من دم الشهيد ويضعه على عينه فلما فعل هذا شفى فآمن وصار مسيحياً واستشهد. ومرض جاليريوس وكان يتعذب بمرضه فأصدر مرسوم التسامح مع المسيحيين عام 311م وطلب فيه أن يصلى المسيحيون لأجله ولكنه مات بمرضه. واستمر اضطهاد الأقباط على يد مكسميانوس الذى كان يرى أنه إذا قضى على المسيحية فى مصر فلا يمكن أن تقوم مرة أخرى فى العالم. لكن ويالا العجب يموت هؤلاء الأباطرة بل تتحول روما نفسها إلى المسيحية ويبقى دم الشهداء فى مصر فى كل شارع علامة على صمود هذا الشعب، وأنه لا ينحنى إلا لله، ولن تكسره قوة مهما تكن. كاهن كنيسة المغارة الشهيرة بأبى سرجة الأثرية لمزيد من مقالات القمص أنجيلوس جرجس