من منا لا يأمل أن تكون عاصمة مصر الأعظم إقليمياً، والأهم عالميًا. إلّا أن هذا لا يمكن أن يتحقق إلاّ وفقاً لرؤية مدروسة، تأخذ فى الحسبان مشاكلها المتداخلة والمتراكمة سواء حاليًا أو فى المستقبل المنظور. ولعل أهمها مشكلة المرور التى يرجع تفاقمها لخلل منظومة النقل سواء العام أم الخاص لعدم أخذها بالقواعد العلمية والممارسات المطبقة بعواصم الدول المتقدمة. والأخطر تطبيق عكسها تماماً فى الكثير من الحالات. ومن الأسباب الرئيسية لأزمة المرور التخطيط غير السليم لمواقع العمل والسكن. والمسئولة عنه هيئة التخطيط العمراني. وهى الجهة وراء العديد من المحاولات لنقل بعض أو كل الوزارات إلى مواقع جديدة. كما حدث عندما أقيمت فعلاً مبان لعدد من الوزارات بمدينة السادات عند إنشائها، أو اتخذ قرار فى إبريل2005 بنقل 16 وزارة لموقع مقابل للقاهرة الجديدة ، أو اتخاذ مجلس الوزراء قرارًا في17/11/2006 بإنشاء عاصمة جديدة فى شمال الصعيد . إلاّ أنه رؤى العدول عنها جميعًا بعد مزيد من الدراسة . وعلى كل ، استقر الرأى أخيرًا على إنشاء العاصمة الإدارية الجارى تنفيذها حاليًا. وتبرز تعقيدات المرور بشكل خاص فى وسط القاهرة ، ليس لتوطن الوزارات بها ولكن لخلل هياكلها التنظيمية. وأبرز مظاهره تضخم عدد العاملين بكل وزارة، ليصل إلى أكثر من عشرة اَلاف شخص (التليفزيون 40 ألف موظف). حيث يتركز اتخاذ القرارات التى تتعلق بالاحتياجات الأساسية اليومية للمواطنين، ومن ثّم توليد حركة نقل ضخمة مفتعلة وغير مبررة على شبكة الطرق، تصب فى النهاية فى منطقة وسط القاهرة. والعاصمة الإدارية الجديدة ستنقل لها رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزارة والبرلمان والوزارات والأجهزة المركزية، مما يؤدى لتعقيدات أكبر لمشكلة المرور نتيجة لتطرف موقعها بالمقارنة للموقع الحالى فى وسط التجمع السكانى للقاهرة الكبرى. خاصة أن من المفروض أن تُجمّع الوزارات والأجهزة المركزية فى موقع متقارب «مركز الأعمال»، وذلك إيفاء بمتطلبات عمل الوزارات والأجهزة المركزية والتى كثيرًا ما تقتضى اتصالًا سريعًا وشخصيًا على أعلى مستوى (الوزير أو رئيس الجهاز المركزي) لحل مشكلة خطيرة مفاجئة تؤثر وتتأثر بقرارات أكثر من جهة. وهى مشاكل أصبحت سمة من سمات العصر (مثل أزمة طارئة فى السولار والبنزين أو تغير حاد فى سعر العملة) . أما ما يتوقعه البعض من انتقال سكن العاملين بالوزارات والأجهزة المركزية إلى العاصمة الإدارية الجديدة ، فإنه يتناقض مع أحد الأسس التى تجب مراعاتها عند تخطيط النقل الذى يبدو أنه يغيب عن الكثيرين وهو أنه «كلما ارتفع مستوى الشخص ومتوسط دخله كلما تباعد مكانا العمل والسكن، بينما كلما إنخفض مستوى دخله تقارب مكانا العمل والسكن». والتباعد يرجع لاختلاف أولويات احتياجات أصحاب المستوى الأعلى والدخل الأكبر، وأنهم أقدر على تحمل أعباء الانتقال لمسافات أطول بين السكن والعمل، والتى كثيراً ما تتحملها جهة عملهم. والاتجاه لتباعد مكانيّ العمل والسكن للفئات الأعلى مستويً ودخلاً يتصاعد فى جميع العواصم العالمية. بل إنه ظاهرة متنامية عبر العقود فى القاهرة رغم تعقيدات المرور. ويوضحه بزوغ أحياء أكثر بعدّا لسكنى المستويات الأعلى الأكبر دخلًا؛ مثل الزمالك وجاردن سيتى، ثم الأبعد مثل المعادى ومصر الجديدة، وأخيراً وليس آَخراً السادس من أكتوبر والقاهرة الجديدة، والأحدث ًكومباوندات« فيلات تتوسط كل منها مزرعة صغيرة كتلك فى طريقيّ القاهرةالإسماعيليةوالقاهرةالإسكندرية. وهكذا فإن المدخل الحاسم لتحجيم مشكلة المرور المتوقعة بالعاصمة الإدارية الجديدة بالإضافة لإصلاح خلل منظومة النقل إعادة هيكلة الجهاز الإدارى للوزارات . وهو ما قد يبدو للبعض من الصعوبة بمكان إلاّ أنه ليس أكثر صعوبة من إنشاء العاصمة الإدارية إذا تّم وفقا للأسس العلمية والتطبيقية، وبالهمة والانضباط الذى يتم به إنشاؤها. هذا ومن نافلة القول حتمية إعادة النظر فى حجم وتصميم مبنى ديوان عام كل وزارة وهيئة رئيسية، وفقاً للأعداد اللازمة لتسيير الأعمال ومستوياتها وطبيعة عملها، فى ظل النظم المستحدثة لإنجاز المهام وأساليب الإتصال والإدارة الذكية التى من المفروض تطبيقها فى الأوضاع الجديدة؛ كما يؤكد رئيس الجمهورية. لمزيد من مقالات د.سعد الدين العشماوى ;