يحيرنى سؤال فى ضوء المناخ الثقافى المعاصر الذى نعيشه الآن، سواء من خلال الإصدارات الثقافية أو البرامج التليفزيونية، أو اللقاءات المفتوحة فى المراكز والمنتديات الثقافية والفكرية، وهو: لماذا تفرغ كثيرون من مثقفينا أو ممن نعتبرهم مثقفين للطعن فى ثوابتنا ومعتقداتنا الراسخة ورموزنا الفكرية والحضارية والدينية والإنسانية بصفة العموم، وما معنى أن يخرج علينا واحد من مثقفينا ليقول على الملأ «إن صلاح الدين الأيوبى هو أحقر شخصية تاريخية»، كما خرج من قبل منكرا رحلة الإسراء والمعراج، وحصرها فى بلاد الحجاز بين مكة والطائف، ثم لماذا يطعن علينا شاب من الباحثين الجدد فى رموزنا الدينية أمثال البخارى ومسلم وابن ماجه وأئمة الفقه الأربعة، ويشكك فى كل ما هو منسوب لهم؟ .. هل ضاقت الساحة الثقافية والفكرية والإبداعية والحضارية ، ولم يتبق لنا سوى العبث بثوابت التاريخ، ورموزه الباقية على مر ذاكرة الزمان والأيام، والمثبوتة فى كتاب الضمير الإنساني، ثم ماذا قدمنا نحن أمام جهود هؤلاء العمالقة الذين أثروا مناخنا الإنسانى بما قدموه من فضائل جليلة ثابتة تتجاوز ما يمكن للعقل البشرى أن يستوعبه، فحينما نريد – مثلا – أن نحكم على شخصية تاريخية مثل شخصية صلاح الدين الأيوبى ، فإننا لا ندعو المتابعين إلى قراءة تاريخه من نافذة مصادرنا التاريخية العربية والإسلامية، القديمة والمعاصرة، حتى لا نقع فى دائرة التحيز ومحيط الانتماء، ولكن ندعو إلى قراءة تاريخه ودوره الإنسانى الخالد فى حماية العالم العربى والإسلامى وبيت المقدس الشريف من السقوط فى براثن الاحتلال. من كتب ومؤلفات الغرب والمستشرقين، ومنها ما نقله لنا مترجمًا العالم والناقد المصرى الدكتور أحمد درويش الأستاذ بجامعة القاهرة عن سيرة صلاح الدين فى ذاكرة الغرب فى كتابه «سيرة صلاح الدين الأيوبى فى أدب الفرنجة»، ويجمع فيه كل ما قيل عن صلاح الدين منذ الحروب الصليبية وحتى وقتنا الراهن فى آداب الغرب ومؤلفاتهم، فعلى سبيل المثال يشير المؤلف إلى ما كتبه الأديب الفرنسى جاستون بريه سنة 1893م فى مؤلفه «أسطورة صلاح الدين»، والتى قال فيها: «إننى أكتب عن شخصية تاريخية تكاملت فى أعرافها معانى العقل والحكمة والقوة والنبل والتسامح، وهو الشخصية الوحيدة فى تاريخ العرب القديم «القرن السادس الهجرى – الثانى عشر الميلادي» التى استطاعت أن تجمع شمل العالم الإسلامى فى عز أزمات تفرقه، وتنافره العقيدى بعد الفترة الفاطمية الطويلة، وهو أول من عقد قمة عربية حقيقية ، لمَّ فيها الشمل العربي، وخرج من خلاله بأصعب قرارات التاريخ العربي؛ ألا وهو قرار الحرب من أجل الحفاظ على وحدة الأرض العربية، والمقدس التاريخى الثابت ممثلا فى بيت المقدس، ومن ثم كانت موقعة حطين التى نجح فيها بكل ما أوتى من قوة وبجيش إسلامى مدرب فى فرض كلمته على جميع ملوك أوروبا ورؤسائها، ثم أثبت نبله وسماحته بعد الحرب حينما تحول من شخصية مقاتلة من أجل المباديء إلى شخصية أسطورية إنسانية من الطراز الأول، فلم يقتل بجيشه شيخا ولا امرأة ولا طفلا، وزار بنفسه مصابى الحرب من الأوروبيين، ومن حالفهم فى القدس الشريف بعد المعركة، وترك اليهود والمسيحيين يتعبدون بكامل حريتهم فى معابدهم وكنائسهم، وعاهدهم على ذلك فى وثيقته . وكذلك الشاعر الكبير دانتى حينما كتب «الكوميديا الآلهية» اعتبر صلاح الدين من أنبل نبلاء العصور كلها، واستثناه فى ملحمته من دخول النار هو والاسكندر الأكبر، كما قال عنه برنارد شو: فيه أخلاق النبوة، وصفات الرسل، أما المؤرخ الفرنسى أندريه ميكل فقال: إن ما فعله صلاح الدين عقب انتصار حطين لم يفعله زعيم فى التاريخ إلا الأنبياء من حيث السماحة والنبل ومثالية الأخلاق، وصان بيت المقدس، وحمى المتعبدين والناسكين والنساء والأطفال والشيوخ ولم يقاتل إلا المعتدين .. إلخ . هذه أمثلة بسيطة مما قاله الكتاب والمؤرخون والأدباء فى الغرب عن أسطورة صلاح الدين، أما نحن فنفرض الأحكام، ونطلق الآراء بغير دليل وبينة، ونتمسك بالقشور، ونعلى قيمة النواقص، ونطعن فى الثوابت، ولا نتبع النهج العلمى الحقيقى فى التفكير، وفى الحكم على شخصياتنا التاريخية الخالدة والباقية شئنا أم أبينا. د . بهاء حسب الله كلية الآداب جامعة حلوان