فى 31 يوليو من عام 1957 انتقل الاستاذ محمد حسنين هيكل من دار أخبار اليوم الى الأهرام رئيسا للتحرير بعد مفاوضات استمرت عاما كاملا ووضع خلالها هيكل شروطه على مكتب ملاك الصحيفة وقتها آل تقلا ومعاونيهم وتضمنت الشروط الاستعانة بطاقم من مساعديه المقربين ودخل الأستاذ الأهرام ليقوم فى سنوات قليلة بنقلة كبرى فى الشكل والمضمون وجدد شباب صحيفة كان متوسط الأعمار فيها فوق الخمسين. كان أصحاب أخبار اليوم يعلمون ما يعنيه انتقال نجم الصحافة الأول فى وقتها الى الأهرام . وبعد 60 عاما مازالت واقعة انتقال هيكل الى الأهرام بعقد احتراف حقيقى هى الأبرز فى تاريخ مهنة الصحافة فى مصر. كلمة احتراف أصبحت من أكثر الكلمات تداولا عند الحديث عن الإدارة الحديثة وهى تتضمن مقاييس عديدة يتحتم أن يتسم بها المسئول فى أى مؤسسة عامة أو خاصة. بمناسبة مناقشة القانون الموحد للصحافة والإعلام الذى تناقشه الهيئات المختصة، ومجلس النواب حاليا هناك ملاحظات تدخل فى المتن وليست على هامشه تتعلق بالنظرة الى مهنة الصحافة اليوم، سواء كانت ملكية عامة أو مملوكة للقطاع الخاص. إعلاء قيمة الاحتراف، ومن يملك القدرة على إدارة مؤسسات صحفية كبيرة الحجم مثل المؤسسات القومية العامة تحتاج الى معايير مختلفة عن طريقة إدارة تلك المؤسسات فى النصف قرن الماضية. الصحافة المصرية، وفى المركز منها الصحافة القومية، تحتاج الى حديث صريح حول حاضرها، وما يمكن أن تعده لمستقبلها ..وفى اعتقادى أن سبع سنوات من الأوضاع المضطربة فى مصر والعالم العربى قد تسببت فى تراجع التفكير فى مستقبل مهنة الصحافة تحت وطأة الأزمات السياسية والمهنية، وتراجع أداء المؤسسات الصحفية على المستوى المالى بسبب الوضع الاقتصادى الصعب، وما ينطبق على مؤسسات الصحافة ينطبق على كثير من مؤسسات الدولة الأخري. هناك متغيرات تجعل وظيفة الإعلام العام مكتوبا ومرئيا ومسموعا محل مراجعات دقيقة.. فما كان يصلح فى زمن بعينه لم يعد اليوم قابلا للاستمرار .. فتشعب وتنوع المشهد الصحفى ما بين صحف ورقية ومواقع إلكترونية وصفحات للتواصل الاجتماعى فرض مهارات بعينها، لابد أن يتسم بها المحرر ومواصفات مناسبة للوسائط الجديدة يتعين أن يتحلى بها القائم على الإدارة .. لكن ما حدث أن قلة قليلة للغاية اهتمت بتطوير مهارات القيادة وامكانيات الصحفيين.. ولم يعد هناك حديث سوى عمن يذهب ومن يأتى دون أن نمنح أنفسنا فرصة للتفكير فى المهارات المناسبة للمكان فى هذا التوقيت، ومن يقدر على علاج الاختلالات الناشئة عن سنوات من الإدارة غير المحترفة فى مؤسسات عدة.. قصص النجاح شحيحة اليوم ولا تتناسب مع مهنة عريقة مرت بمراحل النشأة والازدهار والانتشار فى الأعوام المائة والخمسين الماضية وتنوعت أنماط الملكية فيها من ملاك صحف شوام ومصريين ثم ملكية الدولة للصحف بعد التأميم قبل أن تعود الملكية الخاصة للصحف الورقية لتنافس الصحف العامة قبل عقدين، لكنها جاءت برجال أعمال وليس بخبرات ناشرين محترفين مثلما كان الحال عندما أسس آل تقلا صحيفتنا الأعرق والأشهر! هل يعقل أن يكون المدرب المحترف فى كرة القدم أولوية فى الأندية الكبري، بينما لا يمثل رئيس المؤسسة، أو مدير العمل الذى يتعين أن يأتى بخطة متكاملة للتحديث أهمية فى بلد يعانى من وضع عراقيل عديدة فى طريق الإصلاح الإداري؟! هل المعايير الأكثر صرامة وجدية للأندية الرياضية لا تقابلها معايير مماثلة فى مؤسسات الفكر والثقافة وبناء الوعي..؟ الملكية العامة للصحف ليست أمرا صعبا أو يستحيل معها التطوير السريع .. فقط يتعين أن ننتقل إلى مرحلة جديدة من القيادات الإدارية والصحفية التى تمارس مسئولياتها بقدرات «الناشر المحترف» وعقلية «رئيس التحرير الناضج مهنيا».. عرفت الصحافة المصرية سنوات ازدهارها عندما كان هناك الناشر المحترف ورئيس التحرير المتمكن من أدواته وليس من يسعون لمنصب دون سجل مهنى رفيع يشفع لهم! كثير من مواد القانون الموحد للصحافة والإعلام لا تصلح للتطبيق أو فاتها قطار التطورات المتسارعة فى مهنة الخبر والمعلومة والرأي. التنوع الهائل لوسائل الإعلام والتسابق على سرعة الخبر، وعمق التحليل يقتضى نظرة أكثر عمقا لكيفية إدارة المحتوى الصحفى بشكل أكثر فاعلية ووصولا إلى التأثير فى الرأى العام حتى لا ينصرف القارئ، أو المشاهد عن الصحف، أو القنوات التليفزيونية.. وفى حالة الصحف القومية المسئولية مضاعفة حيث تحمل تلك الصحف رسالة أكثر رقيا من حيث التمسك بالمحتوى الجاد وتقديم مضامين ثقافية وفكرية لا يقدر غيرها على تقديمه فى ظل المنافسة الشرسة اليوم، التى تسيطر عليها الغايات التجارية، لأن ملكية الشعب لتلك الصحف يفترض أن يجعل منها مشاعل تنوير، وليس منصات للإثارة، ومن ثم تصبح مواصفات القيادات أكثر صعوبة، لأنها ترتبط بتقديم مضامين جادة وسط زحام وصخب إعلامى غير مسبوق .. هنا عامل «الخيال» يلعب دوره فى الاختيارات، فالاستاذ هيكل لم يكن فقط مجددا فى قوالب صحافة الأهرام، ولكنه كان يمتهن الإدارة الصحفية بمفاهيم سابقة لعصره أو بالأحرى كان يعيش بخيال المجددين، وهو ما تجلى فى مبنى الأهرام العملاق الذى دخله رئيس تحرير نيويورك تايمز عام 1968، وقال إنه لم ير فى العالم صالة تحرير ومبنى أكثر حداثة مما رأه فى الأهرام. نحن فى حاجة إلى «خيال المجددين» فى الصحافة المصرية، على اختلاف توجهاتها، حتى نضمن انعاش المؤسسات ماليا ونهضتها صحفيا .. فبدون القدرات الاحترافية الممزوجة بالخيال يصعب أن تظهر صحافة مواكبة للتغيير اللاهث على مستوى التواصل، والتعرض لكم هائل من المعلومات يحتاج أن يتحول الى معرفة عن طريق صحافة جادة واعية. [email protected] لمزيد من مقالات عزت ابراهيم;