تقف رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماى على أعتاب التاريخ لتحقيق ما لم يستطع رئيس وزراء بريطانى من حزب المحافظين تحقيقه من قبل، وهو هزيمة حزب العمال فى معاقله فى شمال ووسط انجلترا وويلز وزيادة مقاعده فى اسكتلندا. فإستطلاعات الرأى العام التى جرت منذ اعلان ماى الدعوة لإنتخابات عامة مبكرة مقررة فى 8 يونيو الماضى تظهر أن الولاءات السياسية التقليدية والمعاقل التاريخية كلها فى مهب الريح. وكلمة السر وراء كل هذه التحولات هى «البركسيت». فتصويت البريطانيين بالخروج من الإتحاد الأوروبى فى يونيو الماضى غير الأولويات السياسية فى هذا البلد، للناخب وللأحزاب السياسية، وأعاد بالتالى ترتيب المشهد السياسي. والانتخابات العامة فى يونيو المقبل ستغير هذا المشهد أكثر. وفى هذا المشهد السياسى ما لا يسر حزب العمال، وما يرعب حزب استقلال بريطانيا (يوكيب) القومى اليميني. فالعمال مهددون بخسارة الكثير من معاقلهم التقليدية التى صوتت لصالح خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي. فيما (يوكيب) مهدد بإنتكاسة قد تؤشر لبداية النهاية بالنسبة له. فقواعده التقليدية تتجه للتصويت بشكل جماعى لحزب المحافظين لدعم حكومة تيريزا ماى فى تنفيذ «بركسيت خشن». وإذا كانت الانتخابات المحلية التى جرت فى بريطانيا الأسبوع الماضي، والتى خسر فيها العمال و(يوكيب) مئات المقاعد فى المجالس البلدية لصالح حزب المحافظين، «بروفة» للانتخابات العامة المبكرة، فإن حزب العمال و(يوكيب) أمام تحد مصيرى. وبجميع الحسابات عندما أعلنت تيريزا ماى بشكل مفاجئ الدعوة للانتخابات المبكرة، أعتبر تحركها بمثابة «خطوة استراتيجية بارعة» و«كش ملك» للمعارضة. فمع تقدمها فى استطلاعات الرأى على حزب العمال بما بين 20 و24 نقطة، يفترض ان تضرب ماى بدعوتها للإنتخابات مبكرة عدة أهداف بحجر واحد: أولا: زيادة عدد مقاعد حزب المحافظين فى البرلمان. فماى التى لديها أغلبية ضئيلة فى البرلمان ب17 نائبا، تريد ان تعزز تلك الأغلبية بما لا يقل عن 100 نائب جديد. ثانيا: كشف هشاشة حزب العمال تحت زعامة جيرمى كوربن. وحتى قبل إجراء الانتخابات العامة، بدأت الانقسامات داخل «العمال» فى الظهور مجددا ومن المؤكد ان مصير كوربن سيكون على المحك بعد هذه الإنتخابات. ثالثا: ضمان بقاء حكومتها حتى 2022. فالحكومة الحالية، يفترض إنتهاء فترتها القانونية 2020، أى فى قلب معمعة المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي. والانتخابات المبكرة تعطى لماى هامش مناورة عبر عامين إضافيين ما يخفف الضغوط عنها. رابعا: استغلال الأشهر «الميتة سياسيا» (بدءا من مايو وحتى سبتمبر المقبل بسبب الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الفرنسية ومن بعدها الألمانية) لنيل تفويض سياسى مباشر لها. فتيريزا ماى لم تنتخب مباشرة ومنذ أحتلت مكان رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون، يتم تذكيرها انها «غير منتخبة من الشعب». الانتخابات المبكرة هى ردها لنيل ذلك التفويض الشعبي. خامسا: إرسال رسالة قوية للاتحاد الأوروبى حول قوة الدعم الشعبى لها وبالتالى تعزيز موقفها التفاوضى فى حالة صدق استطلاعات الرأى التى تشير إلى إنها ستحقق فوزا كاسحا. فى ضوء كل هذه «المكاسب المفترضة» من إجراء الانتخابات المبكرة، أنهال الثناء على «مكيافيلية» و«دهاء» ابنة رجل الدين، الإنطوائية، الجادة، الغامضة، التى لا تحب الإختلاط والسهرات وجلسات النميمة، والماهرة فى إخفاء أوراقها السياسية، والتى أجادت إدارة الحكومة البريطانية بعد البركسيت، بطريقة تجاوزت تمنيات أفضل حلفائها ومخاوف ألد أعدائها. لكن هذا الثناء على «دهاء» و«مكر» تيريزا ماى كان الأسبوع الماضي. وأسبوع طويل جدا فى السياسة. فاليوم السؤال المطروح هو: هل ينقلب السحر على الساحر؟. فالارضية الصلبة التى كانت تقف عليها ماى باتت اليوم مهتزة ولو قليلا، وظهرت نقاط الضعف فى استراتيجيتها التفاوضية مع الإتحاد الأوروبي، وتدهورت علاقتها مع كبار مسئولى الإتحاد الأوروبى فى حرب كلامية موجعة. كما أن الظروف المحيطة تغيرت أيضا. فقد انتخب ايمانويل ماكرون، المدافع الصلب عن اتحاد اوروبى قوى ومتماسك، رئيسا لفرنسا. وهى تتذكر إنها بعدما التقته فى «10 دواننج ستريت» قبل أسابيع، خرج بعد اللقاء ودعا البنوك الدولية التى ستغادر لندن بعد البركسيت إلى التوجه إلى باريس. وفى كلمته للشعب الفرنسى بعد فوزه، سار ماكرون نحو المنصة على انغام النشيد الوطنى للاتحاد الأوروبى من السيمفونية التاسعة لبيتهوفن. ولا شك أن ابتسامة كبيرة كانت تعلو وجوه قادة الاتحاد الاوروبى وعلى رأسهم رئيس المفوضية جان كلود يونكر. وقبل أيام أيضا أعلن الاتحاد الأوروبى النقاط العامة المحددة لاستراتيجيته حول البركسيت وتتضمن دفع مستحقات مالية مترتبة على لندن لميزانية الاتحاد الأووربى وتقدرها بعض الجهات بنحو 100 مليار يورو. ثم كان ذلك العشاء العصبى المضطرب بين ماى وجان كلود يونكر فى «10 داوننج ستريت». فخلال العشاء قالت ماى ليونكر إنها ستكون المفاوض الرئيسى عن الجانب البريطاني، وهو ما أعتبره يونكر وفريقه «غير واقعي». فالاتحاد الاوروبى يعتزم عقد جلسات مكثقة ومتواصلة تستمر أسبوعا خلال كل شهر، وذلك على مدار ال15 شهرا المقبلة. والمفاوضات فنية وتفصيلية، وماى بوصفها رئيسا للوزراء لديها مهام أكبر كثيرا من التفرغ للمفاوضات نيابة عن بريطانيا. ثم ظهرت الهوة الواسعة حول وضع الاوروبيين المقيميون فى بريطانيا والجهة القانونية التى يفترض اللجوء اليها لحل الخلافات المستقبلية. فبينما يريد الاتحاد الاوروبى أن تكون محكمة العدل الأوروبية هى الجهة التى يحتكم اليها الطرفان فى حالة نشوب خلافات حول حقوق المواطنين الاوروبيين وأى قضية أخرى خلال مفاوضات الطلاق، تعتبر بريطانيا انها بمجرد تفعيل المادة 50 للخروج «يجب إلا تجبر» على أن تحتكم لمحكمة العدل الاوروبية. ثم نشبت الخلافات الحادة حول «فاتورة الطلاق». ونقل عن ماى أنها قالت ليونكر وفريقه «إن بريطانيا ليست ملزمة بدفع مليم واحد»، فرد يونكر قائلا «إن بريطانيا لا تغادر ناديا للجولف». وبنهاية العشاء مع ماي، غادر يونكر وهو أكثر تشككا عشرة أضعاف فى التوصل لاتفاق مع لندن. ثم اتصل بالمستشارة الألمانية انجيلا ميركل فى الساعة السابعة صباح اليوم التالى يخبرها أن مقاربة رئيسة الوزراء البريطانية للمفاوضات «كأنها من كوكب أخر». وخلال يوم تسربت تفاصيل ذلك العشاء العصيب للصحافة الزلمانية، ما أصاب رئيسة الوزراء البريطانية، التى لا تحب التسريبات، بموجة غضب حادة. وخلال جولة انتخابية صباح اليوم التالى قالت: «سيجدنى يونكر مفاوضة صعبة المراس» فرد يونكر من بروكسل:«هى لن تصبح صعبة المراس. هى صعبة المراس فعلا»، متابعا:»لكنها لا تحتكر صعوبة المراس» وذلك فى إشارة إلى أن الإتحاد الأوروبى سيكون أيضا صعب المراس معها. ثم رفعت ماى سقف التصعيد السياسي، عندما اتهمت «سياسيين ومسئولين» أوروبيين بالسعى للتأثير على نتائج الانتخابات العامة فى بريطانيا قائلة:«وضع بريطانيا التفاوضى فى أوروبا مشوه فى صحافة القارة... موقف المفوضية الأوروبية التفاوضى متصلب ويصدر ساسة ومسئولون أوروبيون تهديدات لبريطانيا... كل هذه الأفعال فى توقيت متعمد للتأثير على نتيجة الانتخابات العامة». هذه الاتهامات قرأت داخليا فى بريطانيا على أنها محاولة من تيريزا ماى ل«افتعال معركة وهمية» مع أوروبا، لتعزيز سطوة حزب المحافظين على المشهد السياسي، والقضاء على أى معارضة لها معنى فى البرلمان. فزعماء أحزاب المعارضة، بدءا من زعيم العمال جيرمى كوربن، وزعيم الأحرار الديمقراطيين تيم فارون، ورئيسة وزراء اسكتلندا نيكولا ستورجين، اتهموا ماى بإنها «تخلق عدو وهمي» و»تلعب بورقة البركسيت» من أجل تحقيق مصالح انتخابية ضيقة، على حساب خلق أجواء عدم ثقة بين لندنوبروكسل قبل المفاوضات الحاسمة. اعلان الحرب على اوروبا لدواعى انتخابية قد يكون مفيدا على المدى القصير، لكن ماى يمكن أن تدفع ثمنه على المدى البعيد مع استئناف المفاوضات مع اوروبا. كما أن التصعيد الحاد وغير المسبوق بين لندنوبروكسل أصاب الكثيرين فى بريطانيا بالخوف من إعطاء حزب المحافظين «شيكا على بياض» حتى 2022 مع ما يترتب على هذا من مخاطر. فتصورات حزب المحافظين حيال البركسيت لم تختبر بعد لأن المفاوضات مع الإتحاد الأوروبى لم تبدأ. لكن التصعيد مع بروكسل إشارة لا تطمئن. فتيريزا ماى مالت نحو النسخة الأكثر تطرفا للبركسيت والتى تتضمن خروج بريطانيا من السوق الموحدة وربما حتى من إتفاق التعريفة الجمركية. هذا الخروج الخش لم يدع له حتى حزب (يوكيب) عندما كان نايجل فاراج زعيما له. ومشكلة ماى إنها تقول إن إستراتيجية البركسيت يجب أن تنال دعم المكونات الأربعة للإتحاد البريطانى (إنجلترا، ويلز، اسكتلندا، وإيرلندا الشمالية). لكن هذه الوعود لا تتجسد على الأرض. فحتى اليوم قدمت ماى تنازلات قليلة جدا كى تقرب بين وجهات النظر بين ويستمنستر والحكومات الإقليمية فى اسكتلندا وايرلندا الشمالية وويلز. ويرى المحللون أن هناك «حيرة» لدى الناخبين حول ما سيصوتون عليه: البركسيت، أو الرعاية الصحية، أو الإقتصاد، أو الدفاع، أو الأمن والتصدى للإرهاب؟ أو كل هذا معا. الانتخابات المقبلة فى بريطانيا هى مصيرية بكل معيار، فالحزب الذى سينتخب سيقود مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبى مع ما سيترتب على ذلك من تحديد مستقبل المملكة المتحدة للعقود المقبلة. وتيريزا ماى قد تنجح فى مراهنتها ويفوز حزب المحافظين بأغلبية كبيرة وربما غير مسبوقة فى البرلمان البريطانى، وهذا سيعطيها التفويض الذى تريده لتنفيذ رؤيتها للبركسيت. لكن نجاح البركسيت لا يعتمد على عدد مقاعد الحكومة فى البرلمان، بل على التوافق الداخلى حول الأهداف والاولويات وهذا ما فشلت فيه ماى حتى الأن.