44 عاما من العلاقات الأسرية بين بريطانيا والاتحاد الأوروبى انتهت بورقة من 6 صفحات تعلن بدء إجراءات الطلاق. ومثل غالبية حالات الطلاق، سيكون مليئا بالمشاعر المتناقضة والمتأججة، من الحزن والخديعة والتحسب من التكلفة المالية، إلى مشاعر الارتياح لزوال عبء الخلافات الدائمة، مرورا بمشاعر الطمع والندم وحتى الأمل. غالبية هذه المشاعر مرت بها بريطانيا والاتحاد الأوروبى في اليوم الأول للتفعيل الرسمي للمادة 50 من معاهدة لشبونة لبدء إجراءات الخروج البريطانى. فبعد ديباجة بريطانية دافئة عن أهمية استمرار العلاقات الوثيقة مع أوروبا، وبعد تعبير قادة التكتل الأوروبى عن حزنهم وحسرتهم للطلاق، قفز الطرفان فورا ل»قائمة المطالب». ففى خطابها لتفعيل المادة 50، استخدمت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي كلمة «الأمن» 11 مرة وربطت بين استمرار التعاون الأمنى مع شركائها الأوروبيين وبين الحصول على اتفاق سريع للتجارة الحرة، فى مقايضة واضحة وصفها عضو البرلمان الأوروبى جاي فيرهوفستادت ب «تهديد صارخ»، قائلا:»أمن الأوروبيين والبريطانيين أهم من أن يستخدم كوسيلة للمقايضة». كما طالبت ماى بأن تثير مفاوضات الخروج من أوروبا جنبا إلى جنب مع مفاوضات شكل العلاقات الجديدة. الربط لم يعجب قادة أوروبا، وردت المستشارة الالمانية انجيلا ميركل فورا برفض فكرة التفاوض المتزامن، موضحة «الخروج أولا»، ثم «التفاوض لاحقا على شكل العلاقات الجديدة». هذه الخلافات والتباينات الأولية هى فقط مجرد بداية. فما هى المشاعر المتباينة التى ستنتاب الأطراف الأوروبية والبريطانيين خلال مسار الطلاق الطويل والصعب؟. مشاعر الحزن والفقد لم يحاول قادة الاتحاد الأوروبى إخفاء صعوبة اللحظة التي سلمت فيها بريطانيا ورقة طلب الطلاق. فرئيس مجلس أوروبا دونالد توسك قال وعلامات الآسي على وجهه «هذا يوم حزين لا يمكننا التظاهر بخلاف ذلك. ماذا أقول (للبريطانيين): نفتقدكم بالفعل. شكرا ووداعا». أما رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر فعلق فقط بعبارة: «أنا حزين. حزين بعمق». هذا الحزن سيكون أيضا من نصيب الكثير من الدول الأوروبية مثل هولندا والعديد من دول أوروبا الشرقية. فالكثير من هذه الدول كان يقف مع بريطانيا على نفس الارضية فى الكثير من القضايا، بدءا من رفض تعميق الوحدة السياسية داخل الاتحاد، إلى رفض السياسات الأوروبية باستقبال ملايين المهاجرين واللاجئين. خروج بريطانيا كان يوما تتمني تلك الدول أن لا يأتى أبدا. لكنه جاء وعلى هذه الدول أن تجد وسطها حليفا قويا يحل محل بريطانيا، ويقف فى وجه مشروعات فرنساوألمانيا لمزيد من الاندماج السياسى. ويقول ديرك جان إبينك المسئول السابق فى المفوضية الأوروبية:»بالنسبة لدولة مثل هولندا كانت تعتمد على بريطانيا كحليف له مواقف متقاربة، خروج بريطانيا يجعل هولندا وحدها اليوم. فالاتحاد الأوروبى سيستخدم البركسيت كوسيلة للانضباط الداخلى والردع لمنع خروج المزيد من الدول». مشاعر الخديعة فى نظر الكثيرين، البركسيت أكبر خديعة يتعرض لها الشعب البريطاني منذ حرب تونى بلير على العراق. فمعسكر الخروج رسم صورة وردية لبريطانيا بعد مغادرة الاتحاد الأوروبى، بدءا من استعادة السيطرة على الحدود والقوانين المحلية وأعداد المهاجرين، إلى استخدام حصة لندن فى ميزانية الاتحاد الأوروبى لزيادة الإنفاق على قطاع الرعاية الصحية فى بريطانيا. لكن على أرض الواقع تحقيق هذه الوعود محل شك كبير. وبينما يريد معسكر الخروج إقناع البريطانيين الرافضين للبركسيت أن بريطانيا تستطيع تعويض خروجها من السوق الأوروبية، الذى يشكل 44% من تعاملاتها التجارية، بإتفاقيات تجارة حرة مع امريكاوكندا والهند والصين، يعتقد الكثيرون في القطاع التجاري البريطاني أن هذه الأسواق لا تعوض خسارة بريطانيا للسوق الموحدة. كما أن اتفاقيات التجارة الحرة مع هذه الدول ستأخذ عقودا حتى يتم التوصل اليها. وقوف بريطانيا «في العراء» تجاريا بهذه الطريقة هو أكثر ما يثير غضب معسكر البقاء لأنه يكشف حجم الخديعة التي تعرض لها البريطانيية. فمعكسر الخروج قبل إجراء الاستفتاء فى يونيو الماضي قال إنه يريد استمرار بريطانيا في السوق الأوروبية الموحدة، وفى اتفاقية التعريفة الجمركية. ووعد احد أبرز وجوه معسكر الخروج ديفيد ديفيز ب»الحصول على نفس المزايا التي تحصل عليها بريطانيا حاليا». لكن لاحقا تحول الحديث إلى الحصول على «ممر» للسوق الموحدة بدون حواجز. ثم تراجعت الوعود لتصبح «اتفاقا تجاريا على غرار اتفاق الاتحاد الأوروبى مع كندا». ثم تدهورت الأمور بشدة وأصبحت تيريزا ماى تتحدث عن أنه «لا اتفاق أفضل من اتفاق سيئ» وذلك فى تباين كامل مع الموقف المبدئى لمعسكر الخروج. وبالنسبة للرافضين للخروج من التكتل الأوروبى، فإن بريطانيا قدمت «خطاب انتحار» إلى الاتحاد الأوروبى. فبشعار «استعادة السيطرة» وضعت بريطانيا نفسها تحت رحمة قرارات 27 دولة أخرى في الإتحاد الأوروبى. وهؤلاء لن يعطوا بريطانيا اتفاقا سهلا. فمثل كل مفاوضات الطلاق لن يمكنك أن تحصل على المنزل والسيارة والحساب فى البنك وتتقاسم المنزل الصيفى. هناك دائما ثمن باهظ للإنفصال من طرف واحد. مشاعر الأنتقام البعض يريد التنكيل ببريطانيا كى تكون عبرة لغيرها. والبعض يعتقد أن البريطانيين عندما يدركون تكلفة الطلاق، نحو 60 مليار جنيه استرلينى، سوف يراجعون انفسهم وبطريقة ما سيحاولون الالتفاف على قرار الخروج من الإتحاد الأوروبى ربما عبر استفتاء ثان. وفي كل هذه السيناريوهات يقف قادة أوروبا متأهبين لعقاب بريطانيا إذا ما حاولت النكوص عن التزاماتها المالية حيال الإتحاد الأوروبى قبل الخروج منه. وتقول سيلفى جولارد النائبة فى البرلمان الأوروبى: «إذا لم تلب بريطانيا التزاماتها التى وقعت عليها مثل التزاماتها فى الميزانية الحالية، فإن مفاوضات الخروج لن تصبح فقط صعبة، بل ستكون العلاقات المستقبلية مع دول الاتحاد الأوروبى صعبة جدا أيضا. سوف تلحق بريطانيا الضرر بسمعتها. ومن يريد أن يوقع اتفاقيات مع دولة تخلت عن اتفاقياتها السابقة؟». وهى مشاعر رددها مانفريد فيبر عضو البرلمان الأوروبى عندما قال «مغادرة بريطانيا ستكون عبئا عليها. هذه حقيقة الأمور ولا علاقة لها بالرغبة فى العقاب. لقد شيدنا جسرا ذهبيا لبريطانيا ليكون لها معاملة خاصة لكنها رفضت كل هذا»، وذلك في إشارة إلى استثناءات سابقة سمح بها الاتحاد الأوروبى لبريطانيا ومن بينها إعفاها من الانضمام للعملة الموحدة اليورو ومنطقة تشينجن. مشاعر الندم ستنتاب ألمانيا تحديدا. فقد كانت ألمانيا ومن ورائها مؤسسات الإتحاد الأوروبى صارمة جدا مع رئيس الوزراء البريطانى السابق ديفيد كاميرون ولم تعطه ما طلبه لتهدئة المخاوف فى بريطانيا. والسؤال الذي يشغل ألمانيا منذ تصويت بريطانيا بالخروج: هل كان يمكن تقديم اتفاق أفضل قادر على ابقاء بريطانيا داخل الإتحاد؟. مصدر آخر للندم الألمانى هو سياسة الباب المفتوح التى انتهجتها ألمانيا حيال المهاجرين واللاجئين والتى كانت الورقة الأساسية التى استخدمها معسكر الخروج فى بريطانيا لاقناع الناخبين بالتصويت لصالح البركسيت. مشاعر الارتياح من عبء المشاحنات الدائمة ستنتاب فرنسا تحديدا. فقد تعبت باريس طوال 44 عاما من المشاحنات مع لندن حول هوية الاتحاد وحدود دوره وتمدده وأين يقف الاندماج بين دول الإتحاد. فخروج بريطانيا كما يقول البعض هو على المدي البعيد ل«صالح الإتحاد على كل المستويات». فبريطانيا كانت دائمة الانتقاد والمشاغبة والرفض. وبخروجها سيكون الإتحاد أكثر قوة وتماسكا ووحدة. وهو ما عبر عنه جان كلود يونكر بقوله:» البركسيت ليس نهاية الاتحاد الأوروبى... ولا نهاية تطورنا أو طموحنا». مشاعر القلق والخوف ستكون من نصيب اليونان وايطاليا. فالإتحاد الأوروبى يمر بمرحلة مفصلية من تاريخه. ومصيره نفسه على المحك. وخروج بريطانيا يفتح الباب أمام كل الاحتمالات: اتحاد أوروبى أقوى أو إتحاد أوروبى أضعف. وإذا ما ضعف الاتحاد فإن هذا سيؤثر على اقتصاده وعلى اليورو. وهذه الدول تمر بأزمة ديون حادة وأخر ما تريده هو إتحاد أوروبى ضعيف مثقل بالمشاكل. مشاعر التحسب والترقب ستكون من نصيب اسبانيا أساسا. فلدى أسبانيا مطالب انفصالية فى اقليمي كاتالونيا والباسك. وخروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبى قد يعقبه استقلال اسكتلندا عن بريطانيا وطلب انضمامها للاتحاد الأوروبى. وهذا سيناريو كارثى تنظر اليه أسبانيا بكثير من الترقب لأنه لو حدث سيعطي اقليمي الباسك وكاتالونيا محفزات للاستقلال. ولهذا تلوح أسبانيا بحق الفيتو فى حالة طلب اسكتلندا إنضمامها للاتحاد الأوروبى إذا ما استقلت عن بريطانيا. مشاعر المجهول ستكون من نصيب ايرلندا الشمالية (أحد مكونات الاتحاد البريطانى)، فحدودها المفتوحة مع جمهورية ايرلندا (الدولة العضو في الإتحاد الأوروبى) هى جزء من «اتفاق الجمعة الحزينة» الذى أنهى الصراع بين البلدين. لكن بخروج بريطانيا ستكون حدود ايرلندا الشمالية مع جمهورية ايرلندا هى حدود بين الإتحاد الأوروبى وبريطانيا، وبقاؤها مفتوحة سيصبح صعبا جدا إن لم يكن مستحيل لأنه سيعني حرية انتقال العمالة والبضائع. والسؤال الذى لا يعرف أحد إجابته حتى الأن هو كيف سيتم التعامل مع مسألة الحدود بين البلدين فى اطار البركسيت وفى اطار اتفاق الجمعة الحزينة. مشاعر الانتهازية ففى كل حالة طلاق، تشعر بعض الاطراف ان اللحظة مواتية للحصول على تنازلات كان من الصعب الحصول عليها سابقا. وهذا ينطبق على الكثير من دول الإتحاد الأوروبى التى لديها مطالب محددة وتشعر انها اللحظة المناسبة للضغط على مؤسسات الإتحاد الأوروبى ودوله القوية للرضوخ لها. فبلجيكا مثلا ومعها اليونان والمجر والكثير من دول أوروبا الشرقية تريد المزيد من الصلاحيات في مسألة السيطرة على حدودها والتحكم فمن يدخل وعدد من يدخل خاصة بالنسبة للمهاجرين وطالبى اللجوء. وهذا المطلب خط أحمر بالنسبة لألمانيا لكن مع التهديدات والمخاوف والتحذير من امتعاض المزيد من الدول، فإن ألمانيا ومعها فرنسا قد تقبلان تعديلات تسمح للدول الوطنية بالمزيد من السيطرة على حدودها. مشاعر الأمل رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر لم يخف أمله في ان تعيد بريطانيا التفكير في قرارها. وخلال قمة بروكسل مطلع مارس، قال صراحة إنه يأمل أن تعاود بريطانيا ركوب قارب الاتحاد الأوروبى، موضحا:»أريد أن أكون فى نفس القارب مع البريطانيين. أمل أن يأتى اليوم الذى يعاود فيه البريطانيون ركوب القارب الأوروبى». لم يغلق الإتحاد الأوروبى باب المصالحة إذن مع بريطانيا وربما بإعادة النظر والحسابات ترى لندن أن الإتحاد شريك أفضل من غيره وتغير رأيها أيضا.