ليس من السهل استصدار حكم قطعي بنهاية زمن وصلاحية المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية, ورغم ذلك فإننا نجازف سياسيا بالقول إن هذه المفاوضات قد انتهت بعد أن استنفدت مهامها. ومن الحكمة أن نصارح أنفسنا, قبل الآخرين, بهذه الحقيقة حتي ولو كانت المفاوضات لاتزال حية من الوجهة الدولية والرسمية فانها في حقيقة الأمر قد دخلت عمليا في حالة احتضار سريري طويل. ومع ذلك فإنه يجب التنويه الي أن القول بنهاية زمن هذه المفاوضات لايعني أبدا الموافقة علي نمط التفكير العدمي الذي يرفض بالمطلق أي مفاوضات وكل المفاوضات, كما أنه لايعني الموافقة أيضا علي الشعارات التي تضع المفاوضات في موقف عدائي متناقض دائما مع المقاومة ربما علي الأقل لأن تاريخ البشرية نفسه وفي أغلبه هو سجل حافل ومفعم بالمفاوضات. ولهذا فإن القول هنا بنهاية هذه المفاوضات لايعني أبدا النبذ المطلق لكل مفاوضات كما لايعني أبدا إدانة المرحلة السابقة من المفاوضات التي جرت بين الجانبين الاسرائيلي والفلسطيني للأسباب الثلاثة التالية: 1 ان هذه المفاوضات عكس كل مايقال لم تمنع أو حتي تعيق الفلسطينيين عن ممارسة حقهم الطبيعي والشرعي في مقاومة الاحتلال بكل الأشكال والأساليب والوسائل, وشهدت مرحلة المفاوضات نشوب أهم وأطول انتفاضتين شعبيتين في تاريخ النضال الوطني الفسلطيني كله, وتكبدت اسرائيل في عقد المفاوضات من1993 2003 من الخسائر مايفوق في حجمه وتأثيره مجمل ماتكبدته في العقود السابقة كلها التي لم تشهد هذه الحالة من تزاوج المفاوضات المقاومة. 2 إن المفاوضات سمحت للفلسطينيين, لأول مرة بأن يمارسوا علي جزء من وطنهم تجربة حكم انفسهم ويبنوا سلطتهم حتي بكل ماشاب هذا التجربة من نواقص وسلبيات فإنها تبقي مع كل ذلك تجربتهم التاريخية وغير المسبوقة والتي ينبغي أن يكونوا قد تعلموا منها الكثير. 3 ان المفاوضات كشفت للطرفين وللعالم, السقف الحقيقي لمطالب كل منهما وحدود التنازلات التي يمكن تقديمها والقضايا التي يمكن الاتفاق عليها والأخري التي يتعذر تسويتها مهما استمرت المفاوضات لكن تعدد جولات المفاوضات كشف أيضا كل مالدي الطرفين من أوراق. وبالتالي ادي ذلك الي انحسار شديد في هوامش المناورة فوصلت المفاوضات الي أزمتها الراهنة بعد أن تمترس كل طرف بعناد كبير في خندقه. وتتفاقم اشكالية العودة للمفاوضات في ظل حكومة الائتلاف اليميني الذي يتزعمه نتانياهو الذي لايزال يعوزه الكثير من الوقت لانضاج الشروط التي قد تحوله لتبني نموذج مناحم بيجن. وربما لاينتبه الكثيرون اليوم الي المواقف الحقيقية للأطراف الأساسية الثلاثة من المفاوضات فنتانياهو يريد العودة للمفاوضات, لكنه لايريد أن يصل الي الحل, وأبو مازن يريد أن يصل الي الحل من دون العودة للمفاوضات وأوباما يريد الحل لكنه لن يحصل عليه بالمفاوضات واعادة تدوير هذه العجلة الجهنمية الفارغة قد تعيدنا قسرا الي المفاوضات لكن لن تقودنا بالتأكيد الي أي حل. وقد تنبه رئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض في وقت مبكر نسبيا الي ضرورة ايجاد بديل للخروج من أسر هذه الأزمة فتبني استراتيجية جديدة علي الفكر السياسي الفلسطيني وتتلخص استراتيجية فياض في العمل الحثيث لإنشاء ما يسمي بدولة علي الطريق أو الدولة المتدحرجة التي تستجيب لكل المعايير الدولية الحديثة لإقامة دولة ديمقراطية لاتعتمد علي الزعيم وانما علي المؤسسات, وتبني مجتمعا مدنيا يراعي المساواة الكاملة لكل مواطنيه بلا أدني تمييز أمام القانون ويؤمن بالتعددية السياسية وتبادل السلطة سلميا ويتسم اداؤه بالشفافية والنزاهة ومقاومة الفساد والتركيز علي الاستثمار في القدرات البشرية للشعب الفلسطيني. ويتوقع الدكتور فياض انجاز هذا المشروع في شهر أغسطس2011 حيث يكون مؤهلا بحلول هذا التاريخ لإعلان ولادة الدولة الفلسطينية المستقلة التي سيطلب من دول العالم بما فيها اسرائيل الاعتراف السياسي والقانوني بها. من المدهش حقا أن يكون فياض القادم من عالم التكنوقراط كخبير اقتصادي دولي هو من اكتشف اكثر من زعماء الفصائل الفلسطينية الطريق الجديد لبناء الدولة المستقلة خارج أزمة المفاوضات وأزمة المقاومة المسلحة وقد استرعت استراتيجية فياض انتباه واحترام جهات دولية عديدة.. الأمر الذي دفع المحلل السياسي الأمريكي الشهير توم فريدمان للاحتفاء بما أسماه بالفياضية وهو نفسه الذي وصف أخيرا الوضع في اسرائيل بقيادة دولة مثل قيادة السيارة مخمورا. ومن المفارقات اللافتة أن يتعرض فياض لمعارضة وهجوم شديدين من فرقاء وأطراف متباينة, فحركة فتح تعارضه بقوة ربما لأنها تريد أن تنسب لها انجازات حكومة فياض وأن ينسب مولود الدولة المستقلة ان هي رأت النور, باسم فتح وليس باسم فياض, وحركة حماس تهاجمه بشدة وتتصيد كلامه لأنه يقدم للفلسطينيين قبل العالم نموذجا للنظام الديمقراطي وللمجتمع المدني, مقابل نموذج الامارة الظلامية التي تسودها فوضي الخلط بين الدين والسياسة وتتفشي فيها الجماعات السلفية لأنه تحدث عن تأهيل الدولة لاستقبال اللاجئين الفلسطينيين مااعتبرته تنازلا عن حق العودة الي داخل اسرائيل, ومن جهتها شنت احزاب اليمين الاسرائيلي هجوما عنيفا علي فياض واعتبرته أخطر من فتح ومن حماس. الحقيقة ان استراتيجية فياض تواجه الخطر من مصدرين: الأول يتعلق بافتقاد فياض نفسه الي قاعدة تنظيمية واسعة تحمل هذه الاستراتيجية وتحميها, وهو لم يظهر بعد أي قدرة علي تأطير مايسمي بالأغلبية الصامتة التي توضح أغلب استطلاعات الرأي أن نسبتها تصل الي أكثر من47% ممن أعلنوا عدم تأييدهم لأي فصيل أو حزب فلسطيني فيما ينبع الخطر الأكبر الثاني من هشاشة الضمانات الدولية لمشروعه, لأنها لم تصدر عن مجلس الأمن وقد لاتصمد هذه الضمانات أمام احتمال اجتياح عسكري اسرائيلي جديد يطيح بكل انجازات حكومة فياض ومؤسساتها ومشاريعها المؤهلة لاستحقاق الدولة تحت غطاء أي ذريعة تناسبها أو تختلقها, ولكن رغم هذه المخاطر فإن الفياضية تبقي للآن صاحبة المشروع الوطني الوحيد في ظل انسداد افق الخيارات الأخري, أزمة المقاومة المسلحة.. ونهاية زمن المفاوضات.