بالنسبة لي.. يبدو هذا الكلام مشيا فى طريق الأشواك.. فمن الصعب أن تختلف - فى العلن- مع زملاء وأصدقاء.. ومن الخطر أن تخالف - فى الاتجاه- مسيرة جماهير غاضبة.. هى مخاطرة إذن أو مغامرة.. ولكن لا بأس.. فالأشواك حقا قد تدمي.. لكنها أيضا قد توقظ وتنبّه. هذه واقعة عرفتها.. ففى يوم إعلان وزارة الداخلية بيانها، الذى كشفت فيه اسم الانتحارى مفجر الكنيسة المرقسية فى الإسكندرية، كان أحد الصحفيين يجلس داخل مبنى «ماسبيرو»، فى انتظار الظهور كضيف فى برنامج يبث على الهواء، للتعليق على تطورات الأحداث الجارية. وبالرغم من أن موعد البرنامج كان بعد ساعة كاملة من إعلان البيان المهم، إلا أن الصحفى فوجئ بعدم تناول الموضوع من الأصل فى «سكريبت» الحلقة. سأل صاحبنا عما إذا كان سيتم التعديل وفقا للتطور الجديد، لكن أحد القائمين على البرنامج ردّ عليه - نافيا- بحركة «تشويح» بيده، وابتسامة صغيرة ممتلئة بالإحباط!.قد يبدو هذا الكلام صادما.. لأن 60 دقيقة بالنسبة للإعلام هى كافية لأن تقوم فيها ثورات.. وليس فقط أن يحلل خلالها إعلام الدولة حدثا مهما أعلنته جهة رسمية فى الدولة!.. لكن المسألة - بالنسبة لي- ليست مفاجئة الآن.. لماذا؟!.أعرف «أهل ماسبيرو» جيدا.. ولى بينهم زملاء وأصدقاء وأحباء.. وأعرف أن بعض البرامج يكون مطلوبا منها أن تتقدم كل أسبوع لإدارة القناة بقائمة الموضوعات التى ستتناولها.. وبذلك قد تضطر إلى مناقشة قضايا.. كانت هى الأبرز.. ولكن خلال الأسبوع السابق!.أعرف «أهل ماسبيرو» جيدا.. وأعرف أن عوامل عديدة تكبّلهم رغما عنهم.. البعض منهم استمرأ الحال.. فصار هؤلاء «موظفين» بدرجة «إعلاميين».. وأعرف أيضا آخرين.. يشتاقون إلى الإصلاح.. ويتمنون أن تجتمع بهم الهيئة الوطنية الجديدة للإعلام.. لتستمع إلى رؤاهم وشكاواهم.. لأجل «ماسبيرو» لا لأجل أنفسهم.بالنسبة لي.. «ماسبيرو» فى الإعلام هو مثل «الأهرام» فى الصحافة.. كلاهما بيت للخبرة الإعلامية والصحفية.. مهما واجههما من عقبات أو اعتراهما من مشاكل.. فالحل هو الإصلاح لا الهدم.. «ماسبيرو» مثل «الأهرام».. مثل «الأهرامات» فى مصر.. أفنهدم «الأهرامات» لأن ساحتها تحتاج إلى التنظيف من الملوثات؟!.على أى حال.. كل الوقائع تلك الليلة بعد بيان وزارة الداخلية كانت كاشفة أيضا.. ففى المقابل.. كان إعلاميون فى الفضائيات الخاصة قد سابقوا الحدث.. وساهموا فى صنع الخبر.. غيروا خرائط برامجهم بل مواعيد بثها ذاتها.. ونزلوا بأنفسهم لإجراء اللقاءات مع أهالى الإرهابيين.. ولكن.. ما فعلوه أثار غضب الجماهير!.. لماذا؟!.اشتعلت الجماهير غضبا.. واعتبرت أن هؤلاء الأهالى مسئولون عما حدث لأن الإرهابى تربّى وسطهم.. أو لأنهم لم يبلغوا عنه.. وأنه كان لا بد من العنف معهم.. ليس فقط من جانب الإعلام.. بل الشرطة أيضا.. لتحقيق الردع!. بدا ذلك بالنسبة لى ضربا من الجنون.. فقررت أن أسير عكس اتجاه الجماهير الغاضبة.. لأقف فى مواجهتها صارخا بأعلى صوت قائلا.. أنتم متطرفون.. أنتم بذور الكراهية فى أرض الجنون.. تدّعون العقل والفهم وما أنتم عاقلون أو فاهمون.. لا أدرى حقا من أخاطب منكم.. إذ كيف تخاطب من جعل غضبه حاكمه ثم راح يغدق علينا بحكمته؟!. بالدين - فى المجتمع المتدين بطبعه- نجد فى القرآن الكريم أنه «ولا تزر وازرة وزر أخري» (الآية 164 من سورة الأنعام)، وفى العهد القديم نجد أنه «وإن حذّرت الشرير من طريقه ليرجع عنه ولم يرجع عن طريقه فهو يموت بذنبه. أما أنت فقد خلّصت نفسك» (حزقيال إصحاح 33 عدد 9).. فكل إنسان مسئول عن تصرفاته وحده. وبالقانون - فى المجتمع الذى يكره القانون بطبعه- نجد أن هناك عقوبات محددة بالنسبة لمن يخفى أو يتستر على مجرم، ولو كان ذلك قد ثبت بالنسبة لأولئك الأهالى لما انتظرت السلطات توجيهات خبراء ال «سوشيال ميديا» بضرورة محاكمتهم. وبالسياسة - وهى هنا شديدة الأهمية- نجد أن الرسالة الأهم هى أن أهالى أى إرهابى وعائلته وقريته، سيكونون أول الضحايا لفعله، دونما أى تنكيل بهم، ولكن من خلال نظرة المجتمع لهم.. لماذا لم يفكر السادة الخبراء فى «الإطار الاجتماعي» الذى سيحيا هؤلاء الأهالى محاصرين داخله أبد الدهر؟!.. هذا الكلام ليس دعوة أبدا للتعاطف معهم.. لكنه تفسير للرسالة المرجوة وإعمال للعقل.. فالدول تخطط وتحارب وتحاكم.. وليست عصابات تثأر!. وبالسياسة أيضا، فإن كشف التفاصيل عن شخصيات الإرهابيين وعائلاتهم تظهر لنا أعداءنا وبيئاتهم وحاضناتهم.. فيكونون عدوا مرئيا معروفا أمامنا.. بما يقطع الطريق أيضا على بيانات «داعش» الكاذبة.ولكن.. كل ما سبق لا يمنعنا من السؤال.. لماذا تم الترتيب مع القنوات الخاصة فقط دون التليفزيون المصرى للقاء أهالى الإرهابيين؟!.. قد يقال إنها القنوات الأكثر مشاهدة.. وسنقول إنه لو تم عرض هذه اللقاءات وغيرها من الحوارات المهمة على التليفزيون لارتفعت مشاهدته شيئا فشيئا.. فهل تكون مسألة إصلاح العلاقة بين «تليفزيون الدولة» و«أجهزة الدولة» هى أولى مهام الهيئة الوطنية للإعلام؟.. يبدو السؤال مؤلما.. لكنه الواقع الذى لا بد أن نغيره. أخيرا أقول.. برغم اضطراب الخطى وتفرق السبل.. فإننا نتمسك بالأمل.. فالأشواك حقا قد تدمي.. لكنها أيضا قد توقظ وتنبّه.. ولا بديل لإدراك السبيل عن الأمل.. ذلك هو شعاع النور الذى يضيء الطريق.. به نتخطى الأشواك.. ونتجاوز الأوحال أيضا!. [email protected] لمزيد من مقالات محمد شعير